الترغيب في التواضع و الترهيب من الكبر...
صفحة 1 من اصل 1
الترغيب في التواضع و الترهيب من الكبر...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين ، أخرجنا من ظلمات الجهل و الوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أيها الإخوة الكرام ، لازلنا في إتحاف المسلم بما في الترغيب والترهيب من صحيح البخاري ومسلم ، واليوم الحديث عن الترغيب في التواضع و الترهيب من الكبر .
ذكرت من قبل أيها الإخوة الكرام أن هناك كبائر ظاهرة ، كالقتل ، وشرب الخمر ، والزنا ، والسرقة ، وما إلى ذلك ، هذه الكبائر صارخة وواضحة وظاهرة ، ومعظم المسلمين بعيدون عنها ـ والحمد لله ـ إلا قلة قليلة ممن شردوا عن الله عز وجل ، ودفعوا ثمن شرودهم شقاء في الدنيا والآخرة .
ولكن المشكلة في الكبائر الباطنة ، الكبائر الباطنة قلما يتوب منها الإنسان ، لأنها ليست ظاهرة ، من هذه الكبائر الكبر .
الكبر أيها الإخوة الكرام يصيب معظم الناس ، أنت إذا نجحت زلت قدمك إلى الكبر ، لذلك أخطاء الناجحين كبيرة جداً ، والبطولة لا أن تصل إلى قمة النجاح ، ولكن أن تبقى في هذه القمة ، وكثيرون وصلوا إليها ، ولكن الغرور أصابهم ، و الكبر تشرب في أفعالهم و أقوالهم فسقطوا .
ومن سمات المؤمن التواضع ، والتواضع في الحقيقة ليس تصنعاً ، هو حقيقة ، بمعنى أن العبد عبد ، وأن الرب رب ، وأنت بالتواضع قد تصل إلى كل ما عند الله من عطاء ، وبالكبر قد تحجب نفسك عن أعظم عطاءات الإيمان ، وكما قيل ، و لست ممن يروج هذه المقولة : رب معصية أورثت ذلاً وانكساراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً ، فالإنسان حينما يرى نفسه متفوقاً ، وهذا التفوق قد يجعله في طريق يستغني عن رحمة الله ، حجب عن الله ، فلذلك الكبر من الكبائر الباطنة ، ولو علم المتكبر أنه متكبر فليس بمتكبر ، خطورة هذا المرض كيف أن في الجسم أمراضًا عضالة مميتة ليس لها أعراض ، كالأورام الخبيثة ، لا يوجد أعراض أبداً ، متى يبدأ العرض ؟ حينما يستفحل ، إذا استفحل ، وصار المريض في طريق مسدود تظهر أعراض المرض .
أيها الإخوة الكرام ، الأحاديث المتعلقة بالكبر عديدة جداً ، من أبرزها فيما رواه الإمام مسلم في صحيحه عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ ، وَلَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ )) .
يوجد قضية دقيقة في التواضع ، وهي أنك إذا تأملت في خلق السماوات والأرض ، وأنك إذا اتصلت بالله عز وجل ، و اطلعت على جانب من عظمة الله عز وجل ترى نفسك لا شيء ، كلما ضعفت معرفتك بالله نمت نفسك ، الأنا تضخمت ، وكلما ازدادت معرفتك بالله تضاءلت الأنا ، أنا لا أرى أن في حياة البشر على الإطلاق إنساناً في قمة التفوق ، وفي قمة التواضع كرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لذلك قالوا من: رآه بديهة هابه ، ومن عامله أحبه ، كان يأكل مع الخادم ، تستوقفه امرأة يكلمها في حاجتها طويلاً ، تأخذ بيده الجارية البنت الصغيرة ، وتقوده إلى حيث تشاء ، ويقول : أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة .
صدقوا أيها الإخوة الكرام أن كل واحد منكم ربما أكرمه الله بالدعوة إليه ، أو ربما التف بعض الناس حوله ، لأن كل شخص بالمسجد عند أهله شيخ ، وعند أهله مظنة صلاح ، وعند أهله مظنة اتصال بالله عز وجل ، لذلك أنت هنا من المستمعين ، من طلاب العلم ، لكنك في حيز بيتك وأهلك وأقاربك أنت محسوب على أهل الإيمان ، ولأن لك شيخًا وجامعًا ، أنت حينما تتواضع يلتف الناس حولك ، وحينما تتكبر نفض الناس من حولك ، والحقيقة أحياناً يوجد كبر مغلف بتواضع ، و هذه الحالة صعبة جداً ، توجد نقطة تضعف شخصية الإنسان ، أنه حينما يشعر بحاجة إلى من يمدحه يصبح المديح عنده جزءاً من حياته ، فإذا شح المديح تحرش هو بمن حوله ، يسأله عن هذا الطعام : أعجبكم ؟ هل كنتم مرتاحون بهذه الوليمة ؟ لأن استجداء المديح يضعف شخصية الإنسان ، ولو درسنا في الأحاديث الشريفة لوجدنا أن النبي عليه الصلاة والسلام ذم المداحين ، فعَنْ أَبِي مَعْمَرٍ قَالَ : (( قَامَ رَجُلٌ يُثْنِي عَلَى أَمِيرٍ مِنْ الْأُمَرَاءِ فَجَعَلَ الْمِقْدَادُ يَحْثِي عَلَيْهِ التُّرَابَ ، وَقَالَ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَحْثِيَ فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ التُّرَابَ )) .
[ مسلم ، الترمذي ، أبو داود ، ابن ماجه ، أحمد ]
وقد ورد أن المديح هو الذبح .
ويوجد حديث آخر عجيب ، إذا مدح المؤمن ربا الإيمان في قلبه ، فكيف نجمع بين تلك الأحاديث التي تبدو أنها متناقضة ؟
المقياس أنك إذا مدحت إنساناً فاستكبر ، واستعلى فينبغي ألا تمدحه ، ما كنت مصيباً في مدحه ، لكن المؤمن الصادق إذا مدحته يزداد تواضعاً ، و يزداد افتقاراً إلى الله ، و يرى أن هذا المديح إنما هو من فضل الله عليه ، و هو يردد قول القائل : إذا أراد ربك إظهار فضله عليك خلق الفضل و نسبه إليك .
مثلاً أحد الإخوة المحسنين الذين توفاهم الله عز وجل قدم بيتاً هدية لفقراء المسلمين ، أحد إخوتنا الكرام رئيس جمعية خيرية ، فهذا البيت أسسه مركزًا للتأهيل المهني للفتيات الفقيرات ، هذه الفقيرة بدل أن نعطيها الصدقة والزكاة ، وأن نجعلها إنسانة تمد يدها دائماً للأغنياء جعلناها عاملة وكاسبة ، وقد تدفع زكاة مالها ، هذا رأي عميق جداً ، أفضل أنواع الزكاة ما حولت الفقير المستجدي إلى مكتفٍ معطٍ ، فهذا المكان أسِّس ، وصار هناك تهيئة للفتيات الفقيرات ، و الله عز وجل أخذ بيد هؤلاء الذين أسسوا ، و هو في صحيفة أعمالهم إن شاء الله .
لكن هذا المحسن الذي قدم هذا البيت ، وهو غالي الثمن ، أقيم له حفل تكريم لتقدير هذا العطاء ، وكل المحتفلين أثنوا على هذا المحسن ، وأطروا إحسانه ، إلا أحد إخوتنا الكرام فاجأ الحضور بكلمة من نوع آخر ، خاطبه ، وقال : أيها المحسن ، كان من الممكن أن تكون أحد المنتفعين من جمعيتنا ، وأن تقف في طابور كبير ، وأن توقع إما ببصمة أو بتوقيع لتأخذ على مشارف العيد مبلغًا يسيرًا جداً لا يقدم ولا يؤخر ، و لكن الله كرمك بأن جعلك محسناً ، فاشكر الله أن جعلك محسناً تعطي ، ولا تأخذ .
يا إخواننا الكرام ، إذا مكنك الله عز وجل من عطاء ، من إلقاء درس ، من إحسان ، يجب أن تذوب لله خجلاً ، لأنه جعلك تعطي ، ولم يجعلك تأخذ ، الذين يأخذون أذكياء أحياناً :
و لو كانت الأرزاق تجري مع الحجا هلكن إذاً من جهلهن البهائـــمُ
قد تجد إنساناً ألمعياً في الذكاء و فقيرًا ، فهذا الذي كرمه الله بصحته ، أو بنجاح في عمل ، أو بطلاقة في إلقاء ، أو بإنفاق مال ، هذا من فضل الله عليك ، وكلما ازددت تواضعاً ازددت عند الله رفعة ، وكلما ازددت تواضعاً التف الناس حولك ، وكلما ازددت تواضعاً أقبل الناس عليك ، وكلما ازددت تواضعاً كنت في قلوب الجميع .
فيا أيها الإخوة الكرام ، إياك أن تستجدي المديح ، وهو عادة من أسوأ العادات ، مادام إخلاصك لله واضحاً ، ومادام إقبالك على الله تاماً ، أنت لست في حاجة إلى المديح ، هذا الذي يمدحك لا يقدم و لا يؤخر ، و من عرف نفسه ما ضرته مقالة الناس به .
لذلك التواضع أنت الآن دقق :
انظر إلى الأكحال و هي حجارة لانت فصار مقرّها في الأعين
وحينما يقال عن النبي عليه الصلاة والسلام : إنه من رآه بديهة هابه ، و من عامله أحبه ، من تواضعه الشديد ، يا عمر ، لا تنسنا يا أخي من دعائك ، سيد الخلق وحبيب الحق يسأل سيدنا عمر أن يدعو له ، تواضع ما بعده تواضع ، زعيم الأمة ، و قائد الأمة ، و قائد الجيش ، ونبي الأمة ، ورسول هو أعظم الرسل على الإطلاق ، في معركة بدر الصحابة ثلاثمئة وبضعة عشر ، قال : : (( وَأَنَا وَعَلِيٌّ وَأَبُو لُبَابَةَ عَلَى رَاحِلَةٍ ، فَكَانَ أَبُو لُبَابَةَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ زَمِيلَيْ رَسُولِ اللهِ e ، فَكَانَتْ نَوْبَةُ رَسُولِ اللهِ e فقالا له : نَحْنُ نَمْشِي عَنْكَ ـ ليظلَّ راكباً ـ فقال : مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى مِنِّي عَلَى السَّيْرِ ، وَلاَ أَنَا بِأَغْنَى مِنْكُمَا عَنِ الأَجْرِ )) .
[النسائي في السنن الكبرى ، أحمد ، والحاكم ، وابن حبان عن ابن مسعود ]
عدّ نفسه جندياً .
نحن نفتقر إلى التواضع في حياتنا ، أي تعلو مرتبتك قليلاً لا تحتمل أن تنادى باسمك ، مع أنني ذهبت إلى بلاد الغرب ، شيء عجيب جداً ، كنت في مركز كل أعضائه أطباء يحملون البورد ، وما سمعت كلمة دكتور إطلاقاً ، فلان ، شيء طبيعي جداً ، كن طبيعياً ، الآن إنسان له مقام ، و ما كان مقامه بالصف الأول في عقد قران تقوم الدنيا ولا تقعد ، فمرة اقترحت على صالات أن تكون طويلة يوجد صف واحد أحسن شيء ، كل المدعوين يجلسون أول صف ، لا يوجد إلا صف أساساً ، يمكن ألا يكون هناك مكان في أول صف ، تجد هناك مشكلة ، كلها كبائر باطنية ، هذه أمراض يا إخوان ، إذا قلت لي : ما الفرق الدقيق الدقيق بين مجتمع الصحابة ومجتمعات المسلمين في آخر الزمان ؟ لا يوجد حب ، لا يوجد تواضع ، تصدق أن نور الدين الشهيد قبل خوض المعركة مع التتار سجد لله عز وجل ماذا قال ؟ قال : يا رب ، من هو الكلب نور الدين حتى تنصره ؟ انصر دينك ، يوجد ملك يسمي نفسه كلباً ؟ من هو الكلب نور الدين حتى تنصره ؟ انصر دينك ، لا يوجد صفة بالإنسان أرقى من التواضع ، و لكن التواضع غير المذلة ، المؤمن يعرف قيمة نفسه لكنه يربأ بنفسه عن أن يذل لمخلوق .
بالمناسبة إخوانا الكرام ، بقدر ما تتذلل لله عز وجل يعزك الله ، و بقدر ما تتكبر يذلك الله ، العلاقة عكسية بين التواضع والعز :
اجعل لربك كل عزك يستقر و يثبت فإذا اعتززت بمن يموت فإن عزك ميت
أنت حينما تربط نفسك بجهة أرضية انتهيت ، أنت محسوب عليها ، ترقى بقوتها ، وتسقط إذا سقطت ، أنت ألغيت شخصيتك ، أجمل كلمة مرة عالم جليل من علماء مصر توفاه الله عز وجل كان في بريطانية لإجراء عمليه ، فجاءت رسائل لا تعد و لا تحصى تطمئن عن صحته ، إذاعة بريطانية أجرت معه مقابلة ، وسألته هذا السؤال : ما هذه المكانة الكبيرة التي حباك الله بها ؟ مئات ألوف الرسائل جاءت ، فأجاب إجابة أنا ما رأيت إجابة أدق منها ، قال : لأنني محسوب على الله ، أي أنا لست أهلاً لهذا الاهتمام ، لكن أنا عند الناس محسوب على الله .
والله أيها الإخوة الكرام ، سمعت طرفة ، أن رجل دين غير مسلم ، لكن تعلمت منها دروساً والله لا تعد ولا تحصى ، أن السيد المسيح في أثناء زيارته للقدس ركب حمارة ـ و القصة معروفة في كتب التاريخ ـ أهل القدس أحبوه ، و تقربوا منه ، و تمسحوا بثيابه ، بالغوا في إكرامه ، فهذا الحمار ظن أن هذا التكريم له ، فلما عاد إلى أمه ؛ أمه أيضاً حمارة مثله ، لكن أذكى منه ، قالت له : لا ، هذا التكريم ليس لك ، لمن يركبك ، لكنه لم يقتنع ، فبعد أيام تمنى أن يذهب إلى القدس ثانية ، في المرة الثانية ذهب وحده ضربه الصغار بالحجارة حتى بالغوا بإيلامه وإذلاله ، فعاد إلى أمه غاضباً ، و قد شكا لها ما أصابه ، قالت له : ألم أقل لك : إن هذا التكريم لم يكن لك ، بل كان للذي يركبك .
أحياناً الإنسان يكرمه الناس من نوع أنه هو باب الله عز وجل ، أو إنسان يدلهم على الله ، أنا أرى أن هذا التكريم هو لله عز وجل ، أما هذا الإنسان فظنوه صالحاً ، ظنوه باباً لله عز وجل ، فأنت إياك أن تظن أن هذا التكريم لك ، وإلا كالذي فكر أنه له ، يجب أن تعتقد أن هذا التكريم لأنك مظنة صلاح فقط ، فأنت في خدمة الناس ، في خدمتهم إلى أقصى الحدود ، وأنت ينبغي أن تكون أقلهم شأناً ، ينبغي أن يصعد الناس عليك ، لا أن تصعد على أكتافهم ، فرق كبير جداً ، كما فعل النبي e .
النبي عليه الصلاة والسلام له طريقة في معاملة أصحابه ، كان متواضعاً أشد التواضع ، كان يأكل مع الخادم ، كان يجلس حيث انتهى به المجلس ، كان الأعرابي إذا دخل عليه يقول : أيكم محمد ؟ وفهمكم كفاية ، لا يوجد أي مظهر كهنوتي إطلاقاً ، فالتواضع يرفع قيمة الإنسان ، أنت تريد أن تكون باباً إلى الله تواضع حتى يحبك الناس :
[ سورة آل عمران : الآية 159]
لكن أنا أفرق بين التواضع والضعة ، أنت لست وضيعاً ، ولكنك متواضعاً ، الفرق كبير جداً ، إذا أكرمك الناس فأنا أخاطب إخوتنا الشباب ، أي شاب متدين فالذين حوله يكرمونه ، يوقرونه ، يحترمونه ، قد يتقربون إليه بخدمة أحياناً أو بهدية ، إذا ظننت أن هذا التكريم لك فأنت كالذي ظن له ، هذا التكريم ليس لك ، ظن من حولك أنك طريق إلى الله ، ظنك من حولك أنك باب إلى الله ، ظنك من حولك أنك معوان على معرفة الله فكرموك ، فأنت ينبغي أن تكون في خدمتهم ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول : سيد القوم خادمهم ، و كلما ازددت تواضعاً ازددت عند الله رفعة .
مثلاً سيدنا الصديق ، و هو يأتي في الدرجة الثانية بعد رسول الله ، ما طلعت شمس على رجل بعد نبي أفضل من أبي بكر ، لو وزن إيمان الخلق مع إيمان أبي بكر لرجح ، هل يعقل أن هذا الإنسان العظيم يتقرب إلى الله بخدمة جارة له عجوز ، فما خدمته لها ؟ كان يحلب شياهها كل يوم ، فلما تسلم منصب الخلافة غلب على ظن هذه الجارة العجوز أن هذه الخدمة قد توقفت ، في صبيحة اليوم الأول مِنْ تسلّمِ هذا الخليفة العظيم منصب الخلافة طرق باب العجوز ، قالت لابنتها : يا ابنتي ، افتحي الباب ، ثم سألتها من الطارق ، قالت جاء حالب الشاة يا أمي ، سيدنا الصديق ، والله الذي تراه من خلفاء رسول الله شيء لا يصدق ، سيدنا عمر يتجول في المدينة ليلاً رأى قافلة قد حطت رحالها في ظاهر المدينة ، فقال لعبد الرحمن بن عوف : تعال نحرس هذه القافلة ، بكى طفل ، قال لأمه : أرضعيه ، خليفة المسلمين ، بكى ثانية ، قال : أرضعيه ، غضبت ، وقست عليه في الكلام ، قالت : وما شأنك بنا ؟ إنني أفطمه ، قال : ولمَ ؟ قالت : لأن عمر لا يعطي العطاء إلا بعد الفطام ، أي التعويض العائلي ، تروي الروايات أنه ضرب جبهته ، و قال : ويحك يا ابن الخطاب ، كم قتلت من أطفال المسلمين ؟ ثم أمر أن يكون العطاء حين الولادة ، وفي صلاة الفجر في اليوم التالي لم يفهم أصحابه الكرام ماذا قرأ في الصلاة من شدة بكائه ، ثم سمعوه يدعو ، ويقول : يا رب ، هل قبلت توبتي فأهنئ نفسي ، أم رددتها فأعزيها ؟
هذه المواقف البطولية تحتاج لإنسان مفتقر إلى الله :
مالي سوى فقري إليـك وسيلة فبالافتقار إليك فقري أدفع
و مالي سوى قرعي لبابك حيلة فإذا رددت فأي باب أقرع
فأنا أقول لكم : هذا الطريق ممكن أن تأتي من أعلى ، ممكن أن تأتي من أسفل ، من أعلى الطريق مسدود ، تصور برميل ماء له فتحات من أعلاه إلى أسفله ، فلو جئت إلى الفتحة السفلى التي في مستوى قعره ماذا تأخذ من البرميل ؟ تأخذ كل ما فيه ، أما إذا اتجهت إلى الفتحة العليا التي على مستوى فتحته العليا لا تأخذ شيئاً ، فكلما نزلت أخذت أكثر ، لذلك باب الانكسار ليس فيه ازدحام ، لكن باب العلو عليه ازدحام شديد .
عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ أَنَّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ ، وَلَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ )) .
[ أبو داود ، ابن ماجه ]
أنا أتمنى أيها الإخوة الكرام أن يكون واضحاً لكم أن التكبر على المتكبر صدقة ، وأن بعض أصحاب النبي رضوان الله عليهم كان يمشي قبيل المعركة متبختراً ، فقال عليه الصلاة و السلام : إن هذه المشية يبغضها الله إلا في هذا الموقف .
تواضعك لأهل الإيمان ، تواضعك لمن يعرف قيمة التواضع ، أما إذا كنت مع إنسان مستكبر ، ستعلى ، غافل ، جاهل ، هذا ينبغي أن تريه قوة و أن تريه حزماً :
[ سورة الشورى : الآية 39]
لكن ينتصرون :
[ سورة الشورى : الآية 40]
أكاد أقول لكم أيها الإخوة الكرام هذه المقولة الرائعة التي قالها الإمام ابن القيم الجوزية : " الإيمان هو الخلق ، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الإيمان " .
ومرة ثانية الله عز وجل ، آتى النبي أشياء نادرة جداً ، قال له مثلاً :
[ سورة الأعلى : الآية 6]
من منا يستطيع أن يقرأ نصاً مرة واحدة ، ويحفظه بحذافيره ؟ مستحيل ، الله عز وجل آتى النبي هذه الميزة ، آتاه فصاحة ما بعدها فصاحة ، قال : أنا أفصح العرب ، بيد أني من قريش ، وقريش أفصح القبائل ، هذا اسمه أسلوب تأكيد المدح بما يشبه الذم ، و آتاه جمالاً ، و آتاه نسباً ، وآتاه حكمة ، وآتاه فهماً ، أما حينما أثنى عليه أثنى على خلقه ، لأن كل هذه الاستثناءات والميزات هي خصائص للدعوة ، أو وسائل للدعوة ، و الله عز وجل منحه إياها ، لكن الشيء الذي أثنى عليه هو من كسبه ، فالخلق من كسبه :
[ سورة القلم : الآية 4]
فأنا أحياناً أرى الفرق بين المسلمين المعاصرين و بين المسلمين الذين كانوا في العصور الأولى ، فرق في الخلق ، كمعلومات ، كقرآن ، كصلوات ، كصيام ، كحج ، كزكاة ، واحد ، العبادات واحدة ، حتى المظاهر الإسلامية صارخة ، أحياناً تجد جامعًا كلّف ألف مليون دولار ، جامع الدار البيضاء ، أنا زرته كلف ألف مليون دولار ، جامع رسول الله سقفه من سعف النخيل ، وأرضه من البحص فقط ، القضية قضية إيمان ، لا قضية بنيان ، نحن عندنا بنيان شيء رائع جداً ، الوسائل ، و المظاهر ، و الزخارف ، و المصاحف ، و المؤتمرات ، و وسائل النشر الإسلامية من كتب إلى أشرطة ، إلى أفلام ، إلى إنترنت ، شيء يفوق حد الخيال ، لكن نفتقر إلى أخلاق الصحابة ، إلى محبة الصحابة ، إلى تعاون الصحابة .
هذا الحديث : (( إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ ، وَلَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ )) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ ، وَمَا زَادَ رَجُلًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا ، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ )) .
[ مسلم ، الترمذي ، أحمد ، الدارمي ]
على المستوى اليومي أحياناً يوجد مدير مؤسسة يدخل ، يبدأ هو بالسلام على الحاجب ، كيف يا بني ؟ صحتك طيبة ؟ أهلك بخير ؟ أولادك بخير ؟ تجد هذا الحاجب يتفانى في خدمته ، كلمة طيبة ، والكلمة الطيبة صدقة ، لو أنه كان متواضعاً ، وعامل من حوله بلطف ، وبإحسان يتفانون بأداء عملهم ، وكنت أقول دائماً : القوي يمدح في حضرته ، ولا يمدح في غيبته ، وأنت كمقياس دقيق لصلاح الإنسان انظر هل يمدح في حضرته أم في غيبته ، القوي يمدح في حضرته ، لكن المحسن يمدح في غيبته ، والمقياس الدقيق أن تمدح في غيبتك لا في حضرتك .
الإنسان الكامل يعيش للناس ، الإنسان القوي يعيش الناس له ، و الفرق كبير جداً ، الأنبياء عاشوا للناس ، والأقوياء عاش الناس لهم ، الإنسان القوي يملك الرقاب ، أما الإنسان المؤمن الكامل فيملك القلوب ، و فرق كبير بين أن تملك القلوب وأن تملك الرقاب .
إذاً : (( وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ )) ، فالتواضع أساسه أنك موصول بالله عز وجل ، و تواضعت لله ، و لم تستكبر على عبادة الله ، الفرق بين معصية آدم ومعصية إبليس ، آدم نسي ، و لم نجد له عزماً :
[ سورة البقرة : الآية 37]
و الصلحة بلمحة ، أما إبليس فأسباب معصيته الكبر ، أنه استنكف أن يسجد لآدم :
[ سورة البقرة : الآية 34]
لذلك أيها الإخوة الكرام ، معاصي الكبر يصعب التوبة منها ، بل يصعب اكتشافها ، كالأمراض السرطانية ، لا أعراض لها ، فجأة تتفاقم الأعراض ، و قد استحق الإنسان الهلاك .
يوجد حديث قدسي يقصم الظهر عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (( الْعِزُّ إِزَارُهُ وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ فَمَنْ يُنَازِعُنِي عَذَّبْتُهُ )) .
[ مسلم ، أبو داود ، ابن ماجه ، أحمد ]
ويوجد قصص لا تعد و لا تحصى حول الكبر الذي يقصم ظهر صاحبه قصماً ، و العوام لهم كلمات لطيفة ، أن الإنسان يأكل لقمة كبيرة ، لكن لا يحكي كلمة كبيرة ، الحقيقة يوجد كلام كفر بواح ، الكفر أنواع ، يوجد كفر قولي ، وهناك كفر اعتقادي ، و هناك كفر سلوكي .
يوجد سلوك يشف عن كفر ، و يوجد كلام يشف عن كفر ، و يوجد اعتقاد يشف عن كفر .
الرواية الثانية لغير مسلم : (( العز إزاري ، والكبرياء ردائي ، فمن نازعني شيئاً منهما عذبته )) ، والله عنده عذاب مهين ، عنده عذاب أليم ، و عنده عذاب مهين ، و عنده عذاب عظيم .
العذاب المهين لا يوجد به آلام ، فيه إذلال ، فيه إذلال يفوق حد الخيال ، هذا اسمه عذاب مهين ، أنتم حينما ترون مثلاً أشخاصاً كانوا من القوة بمكان ، ثم هم في السجن فرضاً ، وضعت القيود في أيديهم ، و كان هذا القوي إذا نظر إلى إنسان يتجمد أو يموت من خوفه ، فجأة توضع القيود في يديه ، طبعاً قد لا يعذب الآن ، لكن هذا عذاب مهين ، أين كان ، وأين صار ؟
ويوجد عذاب أليم فيه آلام لا تحتمل ، و يوجد عذاب عظيم في جهنم ، عذاب جهنم عذاب عظيم ، يوجد بالدنيا عذاب مهين وعذاب أليم ، أي أغلب الظن المتكبر يؤدب بعذاب مهين .
حدثني مرة أخ قال لي : مديرة مدرسة بعيدة عن الدين بعد الأرض عن السماء ، كلما رأت طالبة عليها مسحة أخلاق ، مسحة تدين ، كانت تكيد لها ، و تتفنن في إذلالها ، مضت سنوات شاهدتها مدرسة من مدرساتها ، وقد ارتدت الحجاب ، فرحت بها فرحاً لا حدود له ، ثم علمت أنه ليس حجاباً ، لكن لمرض أصاب شعرها فقدت شعرها كله ، ومنعها الطبيب أن تضع شعراً مستعاراً لئلا يتحسس جلدها ، فوضعت هذه الخرقة على رأسها حفاظاً على مظهرها ، الله أذلها إذلالاً ، لأنها كانت تذل كل فتاة محجبة ، أصابها مرض في رأسها أذهب شعرها كله ، الطبيب منعها أن تستخدم الشعر المستعار ، فاضطرت أن تضع الحجاب قهراً ، و ليس تعبداً .
الله كبير ، أحياناً يسوق عذاب فيه ذل ما بعده ذل ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( احْتَجَّتْ النَّارُ وَالْجَنَّةُ ، فَقَالَتْ هَذِهِ : يَدْخُلُنِي الْجَبَّارُونَ وَالْمُتَكَبِّرُونَ ، وَقَالَتْ هَذِهِ : يَدْخُلُنِي الضُّعَفَاءُ وَالْمَسَاكِينُ ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِهَذِهِ : أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ ، وَرُبَّمَا قَالَ : أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ ، وَقَالَ لِهَذِهِ : أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا )) .
[ البخاري ، مسلم ، الترمذي ، أحمد ]
فأيها الإخوة التواضع من صفات المؤمن ، لأنه رأى عظمة الله عز وجل ، إذا كان لإنسان آلة ( تريكو ) مصنوعة عام ألف و تسعمئة و سبعة عشر ، يدوية ، لا يوجد بها ولا ميزة ، وما رأى آلة أخرى يظنها أعظم آلة في الأرض ، فإذا رأى آلة حديثة إلكترونية تعطي ألوانًا ، تعطي ( جاكار ) ، يوجد الآن آلات تريكو يصعب وصفها ، فهو حينما يطلع على هذه الآلات الحديثة تصغر في عينه آلته .
إخواننا الكرام ، اقبلوا مني هذه الفكرة ، وهي دقيقة جداً ، أنت حينما تطلع على غيرك ، تطلع على علماء الأمة ، على السلف الصالح ، حينما تطلع على أبطال الأمة الذين قدموا ، وضحوا ، أو حينما تسافر ، و ترى المسلمين في شتى أقطارهم تصغر ، لماذا ؟ توازن نفسك مع إنسان أكبر منك في علمه ، أو أكبر منك في أعماله الصالحة تصغر ، لكن إنك تصغر كي تكبر ، لكن حينما تحجب نفسك عن من حولك ، و تتوهم أنك وحيد عصرك ، أو تتوهم أنك وحيد القرن ، أنت صغير في نظر من حولك ، لكنك كبير في نظر نفسك ، هذا الشيء لا قيمة له إطلاقاً ، بقدر معرفتك بالله تتواضع ، و بقدر معرفتك بمن حولك تتواضع ، وطن نفسك على أن تعتم على شخصك ، و على أن تظهر عظمة ربك .
أقول لكم كلمة دقيقة : كيف يوجد بلور سادة عند أهل المصلحة ، بلجيكي ، أي هذا فيه إتقان مذهل ، من شدة صفائه و استوائه تظنه غير موجود ، وكم من حوادث الآن تصير ، إنسان يدخل ويظن أنه لا يوجد باب ، يكون فيه باب بلور ، فالآن يضعون دائماً صورة على الأبواب البلورية ، الصورة هذه الذي عنده زوجة نظيفة جداً و موسوسة ، و يوجد أبواب بلور كاملة ، و البلور ممسوح جداً أنصحه أن يضع صورة على البلور ، يوجد حالات كثيرة جداً لإنسان يدخل فيجرح جبينه ، و قد يصاب بكسر في جمجمته ، يظن أنه لا يوجد شيء .
أنا أقول لك : المؤمن كهذا البلور صافٍ ، يشف عما وراءه ، فهو همه التعريف بالله ، التعريف برسول الله ، ليس له وجود ، هذه يسميها بعض الصوفيين حالة الفناء ، أي ذهل عن شخصه حينما دهش بعظمة ربه .
كلما خفّ إيمان المؤمن يصبح بلور تريكو ، ليس سادة فيه نقشات ، فأنت لا ترى ما وراءه ، ترى نقشه فقط ، فكلما كانت الأضواء مسلطة على شخصك تصبح بلور تريكو ، و لكن ليس شفافًا ، و الآن يمكن أكثر كلمة نستعملها هي الشفافية الآن ، كلمة حديثة جداً بكل خطاب تحكى حوالي عشرين مرة الشفافية ، الشفافية ، الشفافية ، الشفافية أن تشف عن الحقيقة ، أنت تلغي وجودك ، و أن تركز على الذي خلقك ، و على أنبيائه العظام ، فكلما عتمت على نفسك ، و أبرزت عظمة ربك فأنت متواضع ، تجلس في جلسة أحياناً لا يتكلم بحرف إلا عن الشخص ، عملت ، كتبت ، سافرت ، صرفت ، حصلت ، ربحت ، المحور كله شخصه ، مثل هذا الإنسان الناس يكرهونه ، ويضجرون من كلامه ، إن أردت أن يلتف الناس حولك تحدث عن ربك ، لذلك : (( ما ذكرني عبدي في نفسه إلا ذكرته في نفسي ، ولا ذكرني في ملأ من خلقي إلا ذكرته في ملأ خير منهم )) .
[الترمذي ، ابن ماجه عن أبي هريرة]
تجد ـ سبحان ـ الله سمعة المؤمن راقية جداً ، بل إن الله يلقي محبة المؤمن في قلوب الخلق :
ينادى له في الكون أنا نحبه فيسمع من في الكون أمر محبنا
و قد قال بعضهم في تفسير قوله تعالى :
[ سورة طه : الآية 39]
أي ألقيت حبك في قلوب الخلق ، فأنت حينما تتواضع لله ، و تفتقر إليه ، و تمرغ نفسك في أعتابه يرفعك ، أذكركم بقول نور الدين الشهيد ، السلطان الملك ، سجد ، و قال : يا رب ، من هو الكلب نور الدين حتى تنصره ، انصر دينك ، فأنت يجب أن تكون مؤمناً متواضعاً ، و التواضع يلهم صاحبه أساليب مقنعة ، فقد تجد إنساناً مع تواضعه وبعلم معقول ينفع أناساً كثيرين ، والإنسان يكون أعلم علماء عصره ، يوجد عبارات كثيرة لا تحتمل الآن ، وحيد عصره ، و فريد زمانه ، كلمات منمقة ، و مع ذلك أنت لا ترى أن هذا الكلام له معنى ، والله قديماً كانوا يكتبون الفقير إليه تعالى ، أحقر الورى ، والله يوجد لوحات بالمسجد النبوي الشريف لسلاطين فيها أن المذنب طالب المغفرة من الله عز وجل ، فكان السلف الصالح يتواضعون كثيراً ، الآن بقدر ما عندك ، شهادات ، أربعة اسطر تحت اسمه ، هذا لا يقدم و لا يؤخر ، أما عملك العظيم الخالص فهو الذي يرفعك عند الله .
آخر حديث ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ، شَيْخٌ زَانٍ ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ )) .
[ مسلم ، أحمد ]
يوجد قول في الأثر لطيف ، " أحب ثلاثاً ، و حبي لثلاث أشد : أحب الطائعين ، وحبي للشاب الطائع أشد ـ في مقتبل حياته ليس بالثمانين ـ قال لي شخص : أنا العداد قالب ، و الدولاب ماسح ، و سلمت النمر ، أي عبر عن تقدمه بالسن ، جميل جداً أن تجد شاباً في مقتبل حياته في طاعة الله عز وجل ، وما من شيء أحب إلى الله من شاب تائب ، إن الله ليباهي الملائكة بالشاب التائب ، يقول : انظروا عبدي ، ترك شهوته من أجلي ، فأحب ثلاثاً ، وحبي لثلاث أشد : أحب الطائعين ، و حبي للشاب الطائع أشد ، أحب المتواضعين ، وحبي للغني المتواضع أشد ، أحب الكرماء ، و حبي للفقير الكريم أشد ، وأبغض ثلاثاً ، وبغضي لثلاث أشد أبغض المتكبرين ، وبغضي للفقير المتكبر أشد ، وأبغض العصاة ، وبغضي للشيخ العاصي أشد ، وأبغض البخلاء ، وبغضي للغني البخيل أشد .
و الحمد لله رب العالمين
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين ، أخرجنا من ظلمات الجهل و الوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أيها الإخوة الكرام ، لازلنا في إتحاف المسلم بما في الترغيب والترهيب من صحيح البخاري ومسلم ، واليوم الحديث عن الترغيب في التواضع و الترهيب من الكبر .
ذكرت من قبل أيها الإخوة الكرام أن هناك كبائر ظاهرة ، كالقتل ، وشرب الخمر ، والزنا ، والسرقة ، وما إلى ذلك ، هذه الكبائر صارخة وواضحة وظاهرة ، ومعظم المسلمين بعيدون عنها ـ والحمد لله ـ إلا قلة قليلة ممن شردوا عن الله عز وجل ، ودفعوا ثمن شرودهم شقاء في الدنيا والآخرة .
ولكن المشكلة في الكبائر الباطنة ، الكبائر الباطنة قلما يتوب منها الإنسان ، لأنها ليست ظاهرة ، من هذه الكبائر الكبر .
الكبر أيها الإخوة الكرام يصيب معظم الناس ، أنت إذا نجحت زلت قدمك إلى الكبر ، لذلك أخطاء الناجحين كبيرة جداً ، والبطولة لا أن تصل إلى قمة النجاح ، ولكن أن تبقى في هذه القمة ، وكثيرون وصلوا إليها ، ولكن الغرور أصابهم ، و الكبر تشرب في أفعالهم و أقوالهم فسقطوا .
ومن سمات المؤمن التواضع ، والتواضع في الحقيقة ليس تصنعاً ، هو حقيقة ، بمعنى أن العبد عبد ، وأن الرب رب ، وأنت بالتواضع قد تصل إلى كل ما عند الله من عطاء ، وبالكبر قد تحجب نفسك عن أعظم عطاءات الإيمان ، وكما قيل ، و لست ممن يروج هذه المقولة : رب معصية أورثت ذلاً وانكساراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً ، فالإنسان حينما يرى نفسه متفوقاً ، وهذا التفوق قد يجعله في طريق يستغني عن رحمة الله ، حجب عن الله ، فلذلك الكبر من الكبائر الباطنة ، ولو علم المتكبر أنه متكبر فليس بمتكبر ، خطورة هذا المرض كيف أن في الجسم أمراضًا عضالة مميتة ليس لها أعراض ، كالأورام الخبيثة ، لا يوجد أعراض أبداً ، متى يبدأ العرض ؟ حينما يستفحل ، إذا استفحل ، وصار المريض في طريق مسدود تظهر أعراض المرض .
أيها الإخوة الكرام ، الأحاديث المتعلقة بالكبر عديدة جداً ، من أبرزها فيما رواه الإمام مسلم في صحيحه عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ ، وَلَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ )) .
يوجد قضية دقيقة في التواضع ، وهي أنك إذا تأملت في خلق السماوات والأرض ، وأنك إذا اتصلت بالله عز وجل ، و اطلعت على جانب من عظمة الله عز وجل ترى نفسك لا شيء ، كلما ضعفت معرفتك بالله نمت نفسك ، الأنا تضخمت ، وكلما ازدادت معرفتك بالله تضاءلت الأنا ، أنا لا أرى أن في حياة البشر على الإطلاق إنساناً في قمة التفوق ، وفي قمة التواضع كرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لذلك قالوا من: رآه بديهة هابه ، ومن عامله أحبه ، كان يأكل مع الخادم ، تستوقفه امرأة يكلمها في حاجتها طويلاً ، تأخذ بيده الجارية البنت الصغيرة ، وتقوده إلى حيث تشاء ، ويقول : أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة .
صدقوا أيها الإخوة الكرام أن كل واحد منكم ربما أكرمه الله بالدعوة إليه ، أو ربما التف بعض الناس حوله ، لأن كل شخص بالمسجد عند أهله شيخ ، وعند أهله مظنة صلاح ، وعند أهله مظنة اتصال بالله عز وجل ، لذلك أنت هنا من المستمعين ، من طلاب العلم ، لكنك في حيز بيتك وأهلك وأقاربك أنت محسوب على أهل الإيمان ، ولأن لك شيخًا وجامعًا ، أنت حينما تتواضع يلتف الناس حولك ، وحينما تتكبر نفض الناس من حولك ، والحقيقة أحياناً يوجد كبر مغلف بتواضع ، و هذه الحالة صعبة جداً ، توجد نقطة تضعف شخصية الإنسان ، أنه حينما يشعر بحاجة إلى من يمدحه يصبح المديح عنده جزءاً من حياته ، فإذا شح المديح تحرش هو بمن حوله ، يسأله عن هذا الطعام : أعجبكم ؟ هل كنتم مرتاحون بهذه الوليمة ؟ لأن استجداء المديح يضعف شخصية الإنسان ، ولو درسنا في الأحاديث الشريفة لوجدنا أن النبي عليه الصلاة والسلام ذم المداحين ، فعَنْ أَبِي مَعْمَرٍ قَالَ : (( قَامَ رَجُلٌ يُثْنِي عَلَى أَمِيرٍ مِنْ الْأُمَرَاءِ فَجَعَلَ الْمِقْدَادُ يَحْثِي عَلَيْهِ التُّرَابَ ، وَقَالَ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَحْثِيَ فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ التُّرَابَ )) .
[ مسلم ، الترمذي ، أبو داود ، ابن ماجه ، أحمد ]
وقد ورد أن المديح هو الذبح .
ويوجد حديث آخر عجيب ، إذا مدح المؤمن ربا الإيمان في قلبه ، فكيف نجمع بين تلك الأحاديث التي تبدو أنها متناقضة ؟
المقياس أنك إذا مدحت إنساناً فاستكبر ، واستعلى فينبغي ألا تمدحه ، ما كنت مصيباً في مدحه ، لكن المؤمن الصادق إذا مدحته يزداد تواضعاً ، و يزداد افتقاراً إلى الله ، و يرى أن هذا المديح إنما هو من فضل الله عليه ، و هو يردد قول القائل : إذا أراد ربك إظهار فضله عليك خلق الفضل و نسبه إليك .
مثلاً أحد الإخوة المحسنين الذين توفاهم الله عز وجل قدم بيتاً هدية لفقراء المسلمين ، أحد إخوتنا الكرام رئيس جمعية خيرية ، فهذا البيت أسسه مركزًا للتأهيل المهني للفتيات الفقيرات ، هذه الفقيرة بدل أن نعطيها الصدقة والزكاة ، وأن نجعلها إنسانة تمد يدها دائماً للأغنياء جعلناها عاملة وكاسبة ، وقد تدفع زكاة مالها ، هذا رأي عميق جداً ، أفضل أنواع الزكاة ما حولت الفقير المستجدي إلى مكتفٍ معطٍ ، فهذا المكان أسِّس ، وصار هناك تهيئة للفتيات الفقيرات ، و الله عز وجل أخذ بيد هؤلاء الذين أسسوا ، و هو في صحيفة أعمالهم إن شاء الله .
لكن هذا المحسن الذي قدم هذا البيت ، وهو غالي الثمن ، أقيم له حفل تكريم لتقدير هذا العطاء ، وكل المحتفلين أثنوا على هذا المحسن ، وأطروا إحسانه ، إلا أحد إخوتنا الكرام فاجأ الحضور بكلمة من نوع آخر ، خاطبه ، وقال : أيها المحسن ، كان من الممكن أن تكون أحد المنتفعين من جمعيتنا ، وأن تقف في طابور كبير ، وأن توقع إما ببصمة أو بتوقيع لتأخذ على مشارف العيد مبلغًا يسيرًا جداً لا يقدم ولا يؤخر ، و لكن الله كرمك بأن جعلك محسناً ، فاشكر الله أن جعلك محسناً تعطي ، ولا تأخذ .
يا إخواننا الكرام ، إذا مكنك الله عز وجل من عطاء ، من إلقاء درس ، من إحسان ، يجب أن تذوب لله خجلاً ، لأنه جعلك تعطي ، ولم يجعلك تأخذ ، الذين يأخذون أذكياء أحياناً :
و لو كانت الأرزاق تجري مع الحجا هلكن إذاً من جهلهن البهائـــمُ
قد تجد إنساناً ألمعياً في الذكاء و فقيرًا ، فهذا الذي كرمه الله بصحته ، أو بنجاح في عمل ، أو بطلاقة في إلقاء ، أو بإنفاق مال ، هذا من فضل الله عليك ، وكلما ازددت تواضعاً ازددت عند الله رفعة ، وكلما ازددت تواضعاً التف الناس حولك ، وكلما ازددت تواضعاً أقبل الناس عليك ، وكلما ازددت تواضعاً كنت في قلوب الجميع .
فيا أيها الإخوة الكرام ، إياك أن تستجدي المديح ، وهو عادة من أسوأ العادات ، مادام إخلاصك لله واضحاً ، ومادام إقبالك على الله تاماً ، أنت لست في حاجة إلى المديح ، هذا الذي يمدحك لا يقدم و لا يؤخر ، و من عرف نفسه ما ضرته مقالة الناس به .
لذلك التواضع أنت الآن دقق :
انظر إلى الأكحال و هي حجارة لانت فصار مقرّها في الأعين
وحينما يقال عن النبي عليه الصلاة والسلام : إنه من رآه بديهة هابه ، و من عامله أحبه ، من تواضعه الشديد ، يا عمر ، لا تنسنا يا أخي من دعائك ، سيد الخلق وحبيب الحق يسأل سيدنا عمر أن يدعو له ، تواضع ما بعده تواضع ، زعيم الأمة ، و قائد الأمة ، و قائد الجيش ، ونبي الأمة ، ورسول هو أعظم الرسل على الإطلاق ، في معركة بدر الصحابة ثلاثمئة وبضعة عشر ، قال : : (( وَأَنَا وَعَلِيٌّ وَأَبُو لُبَابَةَ عَلَى رَاحِلَةٍ ، فَكَانَ أَبُو لُبَابَةَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ زَمِيلَيْ رَسُولِ اللهِ e ، فَكَانَتْ نَوْبَةُ رَسُولِ اللهِ e فقالا له : نَحْنُ نَمْشِي عَنْكَ ـ ليظلَّ راكباً ـ فقال : مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى مِنِّي عَلَى السَّيْرِ ، وَلاَ أَنَا بِأَغْنَى مِنْكُمَا عَنِ الأَجْرِ )) .
[النسائي في السنن الكبرى ، أحمد ، والحاكم ، وابن حبان عن ابن مسعود ]
عدّ نفسه جندياً .
نحن نفتقر إلى التواضع في حياتنا ، أي تعلو مرتبتك قليلاً لا تحتمل أن تنادى باسمك ، مع أنني ذهبت إلى بلاد الغرب ، شيء عجيب جداً ، كنت في مركز كل أعضائه أطباء يحملون البورد ، وما سمعت كلمة دكتور إطلاقاً ، فلان ، شيء طبيعي جداً ، كن طبيعياً ، الآن إنسان له مقام ، و ما كان مقامه بالصف الأول في عقد قران تقوم الدنيا ولا تقعد ، فمرة اقترحت على صالات أن تكون طويلة يوجد صف واحد أحسن شيء ، كل المدعوين يجلسون أول صف ، لا يوجد إلا صف أساساً ، يمكن ألا يكون هناك مكان في أول صف ، تجد هناك مشكلة ، كلها كبائر باطنية ، هذه أمراض يا إخوان ، إذا قلت لي : ما الفرق الدقيق الدقيق بين مجتمع الصحابة ومجتمعات المسلمين في آخر الزمان ؟ لا يوجد حب ، لا يوجد تواضع ، تصدق أن نور الدين الشهيد قبل خوض المعركة مع التتار سجد لله عز وجل ماذا قال ؟ قال : يا رب ، من هو الكلب نور الدين حتى تنصره ؟ انصر دينك ، يوجد ملك يسمي نفسه كلباً ؟ من هو الكلب نور الدين حتى تنصره ؟ انصر دينك ، لا يوجد صفة بالإنسان أرقى من التواضع ، و لكن التواضع غير المذلة ، المؤمن يعرف قيمة نفسه لكنه يربأ بنفسه عن أن يذل لمخلوق .
بالمناسبة إخوانا الكرام ، بقدر ما تتذلل لله عز وجل يعزك الله ، و بقدر ما تتكبر يذلك الله ، العلاقة عكسية بين التواضع والعز :
اجعل لربك كل عزك يستقر و يثبت فإذا اعتززت بمن يموت فإن عزك ميت
أنت حينما تربط نفسك بجهة أرضية انتهيت ، أنت محسوب عليها ، ترقى بقوتها ، وتسقط إذا سقطت ، أنت ألغيت شخصيتك ، أجمل كلمة مرة عالم جليل من علماء مصر توفاه الله عز وجل كان في بريطانية لإجراء عمليه ، فجاءت رسائل لا تعد و لا تحصى تطمئن عن صحته ، إذاعة بريطانية أجرت معه مقابلة ، وسألته هذا السؤال : ما هذه المكانة الكبيرة التي حباك الله بها ؟ مئات ألوف الرسائل جاءت ، فأجاب إجابة أنا ما رأيت إجابة أدق منها ، قال : لأنني محسوب على الله ، أي أنا لست أهلاً لهذا الاهتمام ، لكن أنا عند الناس محسوب على الله .
والله أيها الإخوة الكرام ، سمعت طرفة ، أن رجل دين غير مسلم ، لكن تعلمت منها دروساً والله لا تعد ولا تحصى ، أن السيد المسيح في أثناء زيارته للقدس ركب حمارة ـ و القصة معروفة في كتب التاريخ ـ أهل القدس أحبوه ، و تقربوا منه ، و تمسحوا بثيابه ، بالغوا في إكرامه ، فهذا الحمار ظن أن هذا التكريم له ، فلما عاد إلى أمه ؛ أمه أيضاً حمارة مثله ، لكن أذكى منه ، قالت له : لا ، هذا التكريم ليس لك ، لمن يركبك ، لكنه لم يقتنع ، فبعد أيام تمنى أن يذهب إلى القدس ثانية ، في المرة الثانية ذهب وحده ضربه الصغار بالحجارة حتى بالغوا بإيلامه وإذلاله ، فعاد إلى أمه غاضباً ، و قد شكا لها ما أصابه ، قالت له : ألم أقل لك : إن هذا التكريم لم يكن لك ، بل كان للذي يركبك .
أحياناً الإنسان يكرمه الناس من نوع أنه هو باب الله عز وجل ، أو إنسان يدلهم على الله ، أنا أرى أن هذا التكريم هو لله عز وجل ، أما هذا الإنسان فظنوه صالحاً ، ظنوه باباً لله عز وجل ، فأنت إياك أن تظن أن هذا التكريم لك ، وإلا كالذي فكر أنه له ، يجب أن تعتقد أن هذا التكريم لأنك مظنة صلاح فقط ، فأنت في خدمة الناس ، في خدمتهم إلى أقصى الحدود ، وأنت ينبغي أن تكون أقلهم شأناً ، ينبغي أن يصعد الناس عليك ، لا أن تصعد على أكتافهم ، فرق كبير جداً ، كما فعل النبي e .
النبي عليه الصلاة والسلام له طريقة في معاملة أصحابه ، كان متواضعاً أشد التواضع ، كان يأكل مع الخادم ، كان يجلس حيث انتهى به المجلس ، كان الأعرابي إذا دخل عليه يقول : أيكم محمد ؟ وفهمكم كفاية ، لا يوجد أي مظهر كهنوتي إطلاقاً ، فالتواضع يرفع قيمة الإنسان ، أنت تريد أن تكون باباً إلى الله تواضع حتى يحبك الناس :
[ سورة آل عمران : الآية 159]
لكن أنا أفرق بين التواضع والضعة ، أنت لست وضيعاً ، ولكنك متواضعاً ، الفرق كبير جداً ، إذا أكرمك الناس فأنا أخاطب إخوتنا الشباب ، أي شاب متدين فالذين حوله يكرمونه ، يوقرونه ، يحترمونه ، قد يتقربون إليه بخدمة أحياناً أو بهدية ، إذا ظننت أن هذا التكريم لك فأنت كالذي ظن له ، هذا التكريم ليس لك ، ظن من حولك أنك طريق إلى الله ، ظنك من حولك أنك باب إلى الله ، ظنك من حولك أنك معوان على معرفة الله فكرموك ، فأنت ينبغي أن تكون في خدمتهم ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول : سيد القوم خادمهم ، و كلما ازددت تواضعاً ازددت عند الله رفعة .
مثلاً سيدنا الصديق ، و هو يأتي في الدرجة الثانية بعد رسول الله ، ما طلعت شمس على رجل بعد نبي أفضل من أبي بكر ، لو وزن إيمان الخلق مع إيمان أبي بكر لرجح ، هل يعقل أن هذا الإنسان العظيم يتقرب إلى الله بخدمة جارة له عجوز ، فما خدمته لها ؟ كان يحلب شياهها كل يوم ، فلما تسلم منصب الخلافة غلب على ظن هذه الجارة العجوز أن هذه الخدمة قد توقفت ، في صبيحة اليوم الأول مِنْ تسلّمِ هذا الخليفة العظيم منصب الخلافة طرق باب العجوز ، قالت لابنتها : يا ابنتي ، افتحي الباب ، ثم سألتها من الطارق ، قالت جاء حالب الشاة يا أمي ، سيدنا الصديق ، والله الذي تراه من خلفاء رسول الله شيء لا يصدق ، سيدنا عمر يتجول في المدينة ليلاً رأى قافلة قد حطت رحالها في ظاهر المدينة ، فقال لعبد الرحمن بن عوف : تعال نحرس هذه القافلة ، بكى طفل ، قال لأمه : أرضعيه ، خليفة المسلمين ، بكى ثانية ، قال : أرضعيه ، غضبت ، وقست عليه في الكلام ، قالت : وما شأنك بنا ؟ إنني أفطمه ، قال : ولمَ ؟ قالت : لأن عمر لا يعطي العطاء إلا بعد الفطام ، أي التعويض العائلي ، تروي الروايات أنه ضرب جبهته ، و قال : ويحك يا ابن الخطاب ، كم قتلت من أطفال المسلمين ؟ ثم أمر أن يكون العطاء حين الولادة ، وفي صلاة الفجر في اليوم التالي لم يفهم أصحابه الكرام ماذا قرأ في الصلاة من شدة بكائه ، ثم سمعوه يدعو ، ويقول : يا رب ، هل قبلت توبتي فأهنئ نفسي ، أم رددتها فأعزيها ؟
هذه المواقف البطولية تحتاج لإنسان مفتقر إلى الله :
مالي سوى فقري إليـك وسيلة فبالافتقار إليك فقري أدفع
و مالي سوى قرعي لبابك حيلة فإذا رددت فأي باب أقرع
فأنا أقول لكم : هذا الطريق ممكن أن تأتي من أعلى ، ممكن أن تأتي من أسفل ، من أعلى الطريق مسدود ، تصور برميل ماء له فتحات من أعلاه إلى أسفله ، فلو جئت إلى الفتحة السفلى التي في مستوى قعره ماذا تأخذ من البرميل ؟ تأخذ كل ما فيه ، أما إذا اتجهت إلى الفتحة العليا التي على مستوى فتحته العليا لا تأخذ شيئاً ، فكلما نزلت أخذت أكثر ، لذلك باب الانكسار ليس فيه ازدحام ، لكن باب العلو عليه ازدحام شديد .
عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ أَنَّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ ، وَلَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ )) .
[ أبو داود ، ابن ماجه ]
أنا أتمنى أيها الإخوة الكرام أن يكون واضحاً لكم أن التكبر على المتكبر صدقة ، وأن بعض أصحاب النبي رضوان الله عليهم كان يمشي قبيل المعركة متبختراً ، فقال عليه الصلاة و السلام : إن هذه المشية يبغضها الله إلا في هذا الموقف .
تواضعك لأهل الإيمان ، تواضعك لمن يعرف قيمة التواضع ، أما إذا كنت مع إنسان مستكبر ، ستعلى ، غافل ، جاهل ، هذا ينبغي أن تريه قوة و أن تريه حزماً :
[ سورة الشورى : الآية 39]
لكن ينتصرون :
[ سورة الشورى : الآية 40]
أكاد أقول لكم أيها الإخوة الكرام هذه المقولة الرائعة التي قالها الإمام ابن القيم الجوزية : " الإيمان هو الخلق ، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الإيمان " .
ومرة ثانية الله عز وجل ، آتى النبي أشياء نادرة جداً ، قال له مثلاً :
[ سورة الأعلى : الآية 6]
من منا يستطيع أن يقرأ نصاً مرة واحدة ، ويحفظه بحذافيره ؟ مستحيل ، الله عز وجل آتى النبي هذه الميزة ، آتاه فصاحة ما بعدها فصاحة ، قال : أنا أفصح العرب ، بيد أني من قريش ، وقريش أفصح القبائل ، هذا اسمه أسلوب تأكيد المدح بما يشبه الذم ، و آتاه جمالاً ، و آتاه نسباً ، وآتاه حكمة ، وآتاه فهماً ، أما حينما أثنى عليه أثنى على خلقه ، لأن كل هذه الاستثناءات والميزات هي خصائص للدعوة ، أو وسائل للدعوة ، و الله عز وجل منحه إياها ، لكن الشيء الذي أثنى عليه هو من كسبه ، فالخلق من كسبه :
[ سورة القلم : الآية 4]
فأنا أحياناً أرى الفرق بين المسلمين المعاصرين و بين المسلمين الذين كانوا في العصور الأولى ، فرق في الخلق ، كمعلومات ، كقرآن ، كصلوات ، كصيام ، كحج ، كزكاة ، واحد ، العبادات واحدة ، حتى المظاهر الإسلامية صارخة ، أحياناً تجد جامعًا كلّف ألف مليون دولار ، جامع الدار البيضاء ، أنا زرته كلف ألف مليون دولار ، جامع رسول الله سقفه من سعف النخيل ، وأرضه من البحص فقط ، القضية قضية إيمان ، لا قضية بنيان ، نحن عندنا بنيان شيء رائع جداً ، الوسائل ، و المظاهر ، و الزخارف ، و المصاحف ، و المؤتمرات ، و وسائل النشر الإسلامية من كتب إلى أشرطة ، إلى أفلام ، إلى إنترنت ، شيء يفوق حد الخيال ، لكن نفتقر إلى أخلاق الصحابة ، إلى محبة الصحابة ، إلى تعاون الصحابة .
هذا الحديث : (( إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ ، وَلَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ )) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ ، وَمَا زَادَ رَجُلًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا ، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ )) .
[ مسلم ، الترمذي ، أحمد ، الدارمي ]
على المستوى اليومي أحياناً يوجد مدير مؤسسة يدخل ، يبدأ هو بالسلام على الحاجب ، كيف يا بني ؟ صحتك طيبة ؟ أهلك بخير ؟ أولادك بخير ؟ تجد هذا الحاجب يتفانى في خدمته ، كلمة طيبة ، والكلمة الطيبة صدقة ، لو أنه كان متواضعاً ، وعامل من حوله بلطف ، وبإحسان يتفانون بأداء عملهم ، وكنت أقول دائماً : القوي يمدح في حضرته ، ولا يمدح في غيبته ، وأنت كمقياس دقيق لصلاح الإنسان انظر هل يمدح في حضرته أم في غيبته ، القوي يمدح في حضرته ، لكن المحسن يمدح في غيبته ، والمقياس الدقيق أن تمدح في غيبتك لا في حضرتك .
الإنسان الكامل يعيش للناس ، الإنسان القوي يعيش الناس له ، و الفرق كبير جداً ، الأنبياء عاشوا للناس ، والأقوياء عاش الناس لهم ، الإنسان القوي يملك الرقاب ، أما الإنسان المؤمن الكامل فيملك القلوب ، و فرق كبير بين أن تملك القلوب وأن تملك الرقاب .
إذاً : (( وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ )) ، فالتواضع أساسه أنك موصول بالله عز وجل ، و تواضعت لله ، و لم تستكبر على عبادة الله ، الفرق بين معصية آدم ومعصية إبليس ، آدم نسي ، و لم نجد له عزماً :
[ سورة البقرة : الآية 37]
و الصلحة بلمحة ، أما إبليس فأسباب معصيته الكبر ، أنه استنكف أن يسجد لآدم :
[ سورة البقرة : الآية 34]
لذلك أيها الإخوة الكرام ، معاصي الكبر يصعب التوبة منها ، بل يصعب اكتشافها ، كالأمراض السرطانية ، لا أعراض لها ، فجأة تتفاقم الأعراض ، و قد استحق الإنسان الهلاك .
يوجد حديث قدسي يقصم الظهر عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (( الْعِزُّ إِزَارُهُ وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ فَمَنْ يُنَازِعُنِي عَذَّبْتُهُ )) .
[ مسلم ، أبو داود ، ابن ماجه ، أحمد ]
ويوجد قصص لا تعد و لا تحصى حول الكبر الذي يقصم ظهر صاحبه قصماً ، و العوام لهم كلمات لطيفة ، أن الإنسان يأكل لقمة كبيرة ، لكن لا يحكي كلمة كبيرة ، الحقيقة يوجد كلام كفر بواح ، الكفر أنواع ، يوجد كفر قولي ، وهناك كفر اعتقادي ، و هناك كفر سلوكي .
يوجد سلوك يشف عن كفر ، و يوجد كلام يشف عن كفر ، و يوجد اعتقاد يشف عن كفر .
الرواية الثانية لغير مسلم : (( العز إزاري ، والكبرياء ردائي ، فمن نازعني شيئاً منهما عذبته )) ، والله عنده عذاب مهين ، عنده عذاب أليم ، و عنده عذاب مهين ، و عنده عذاب عظيم .
العذاب المهين لا يوجد به آلام ، فيه إذلال ، فيه إذلال يفوق حد الخيال ، هذا اسمه عذاب مهين ، أنتم حينما ترون مثلاً أشخاصاً كانوا من القوة بمكان ، ثم هم في السجن فرضاً ، وضعت القيود في أيديهم ، و كان هذا القوي إذا نظر إلى إنسان يتجمد أو يموت من خوفه ، فجأة توضع القيود في يديه ، طبعاً قد لا يعذب الآن ، لكن هذا عذاب مهين ، أين كان ، وأين صار ؟
ويوجد عذاب أليم فيه آلام لا تحتمل ، و يوجد عذاب عظيم في جهنم ، عذاب جهنم عذاب عظيم ، يوجد بالدنيا عذاب مهين وعذاب أليم ، أي أغلب الظن المتكبر يؤدب بعذاب مهين .
حدثني مرة أخ قال لي : مديرة مدرسة بعيدة عن الدين بعد الأرض عن السماء ، كلما رأت طالبة عليها مسحة أخلاق ، مسحة تدين ، كانت تكيد لها ، و تتفنن في إذلالها ، مضت سنوات شاهدتها مدرسة من مدرساتها ، وقد ارتدت الحجاب ، فرحت بها فرحاً لا حدود له ، ثم علمت أنه ليس حجاباً ، لكن لمرض أصاب شعرها فقدت شعرها كله ، ومنعها الطبيب أن تضع شعراً مستعاراً لئلا يتحسس جلدها ، فوضعت هذه الخرقة على رأسها حفاظاً على مظهرها ، الله أذلها إذلالاً ، لأنها كانت تذل كل فتاة محجبة ، أصابها مرض في رأسها أذهب شعرها كله ، الطبيب منعها أن تستخدم الشعر المستعار ، فاضطرت أن تضع الحجاب قهراً ، و ليس تعبداً .
الله كبير ، أحياناً يسوق عذاب فيه ذل ما بعده ذل ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( احْتَجَّتْ النَّارُ وَالْجَنَّةُ ، فَقَالَتْ هَذِهِ : يَدْخُلُنِي الْجَبَّارُونَ وَالْمُتَكَبِّرُونَ ، وَقَالَتْ هَذِهِ : يَدْخُلُنِي الضُّعَفَاءُ وَالْمَسَاكِينُ ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِهَذِهِ : أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ ، وَرُبَّمَا قَالَ : أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ ، وَقَالَ لِهَذِهِ : أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا )) .
[ البخاري ، مسلم ، الترمذي ، أحمد ]
فأيها الإخوة التواضع من صفات المؤمن ، لأنه رأى عظمة الله عز وجل ، إذا كان لإنسان آلة ( تريكو ) مصنوعة عام ألف و تسعمئة و سبعة عشر ، يدوية ، لا يوجد بها ولا ميزة ، وما رأى آلة أخرى يظنها أعظم آلة في الأرض ، فإذا رأى آلة حديثة إلكترونية تعطي ألوانًا ، تعطي ( جاكار ) ، يوجد الآن آلات تريكو يصعب وصفها ، فهو حينما يطلع على هذه الآلات الحديثة تصغر في عينه آلته .
إخواننا الكرام ، اقبلوا مني هذه الفكرة ، وهي دقيقة جداً ، أنت حينما تطلع على غيرك ، تطلع على علماء الأمة ، على السلف الصالح ، حينما تطلع على أبطال الأمة الذين قدموا ، وضحوا ، أو حينما تسافر ، و ترى المسلمين في شتى أقطارهم تصغر ، لماذا ؟ توازن نفسك مع إنسان أكبر منك في علمه ، أو أكبر منك في أعماله الصالحة تصغر ، لكن إنك تصغر كي تكبر ، لكن حينما تحجب نفسك عن من حولك ، و تتوهم أنك وحيد عصرك ، أو تتوهم أنك وحيد القرن ، أنت صغير في نظر من حولك ، لكنك كبير في نظر نفسك ، هذا الشيء لا قيمة له إطلاقاً ، بقدر معرفتك بالله تتواضع ، و بقدر معرفتك بمن حولك تتواضع ، وطن نفسك على أن تعتم على شخصك ، و على أن تظهر عظمة ربك .
أقول لكم كلمة دقيقة : كيف يوجد بلور سادة عند أهل المصلحة ، بلجيكي ، أي هذا فيه إتقان مذهل ، من شدة صفائه و استوائه تظنه غير موجود ، وكم من حوادث الآن تصير ، إنسان يدخل ويظن أنه لا يوجد باب ، يكون فيه باب بلور ، فالآن يضعون دائماً صورة على الأبواب البلورية ، الصورة هذه الذي عنده زوجة نظيفة جداً و موسوسة ، و يوجد أبواب بلور كاملة ، و البلور ممسوح جداً أنصحه أن يضع صورة على البلور ، يوجد حالات كثيرة جداً لإنسان يدخل فيجرح جبينه ، و قد يصاب بكسر في جمجمته ، يظن أنه لا يوجد شيء .
أنا أقول لك : المؤمن كهذا البلور صافٍ ، يشف عما وراءه ، فهو همه التعريف بالله ، التعريف برسول الله ، ليس له وجود ، هذه يسميها بعض الصوفيين حالة الفناء ، أي ذهل عن شخصه حينما دهش بعظمة ربه .
كلما خفّ إيمان المؤمن يصبح بلور تريكو ، ليس سادة فيه نقشات ، فأنت لا ترى ما وراءه ، ترى نقشه فقط ، فكلما كانت الأضواء مسلطة على شخصك تصبح بلور تريكو ، و لكن ليس شفافًا ، و الآن يمكن أكثر كلمة نستعملها هي الشفافية الآن ، كلمة حديثة جداً بكل خطاب تحكى حوالي عشرين مرة الشفافية ، الشفافية ، الشفافية ، الشفافية أن تشف عن الحقيقة ، أنت تلغي وجودك ، و أن تركز على الذي خلقك ، و على أنبيائه العظام ، فكلما عتمت على نفسك ، و أبرزت عظمة ربك فأنت متواضع ، تجلس في جلسة أحياناً لا يتكلم بحرف إلا عن الشخص ، عملت ، كتبت ، سافرت ، صرفت ، حصلت ، ربحت ، المحور كله شخصه ، مثل هذا الإنسان الناس يكرهونه ، ويضجرون من كلامه ، إن أردت أن يلتف الناس حولك تحدث عن ربك ، لذلك : (( ما ذكرني عبدي في نفسه إلا ذكرته في نفسي ، ولا ذكرني في ملأ من خلقي إلا ذكرته في ملأ خير منهم )) .
[الترمذي ، ابن ماجه عن أبي هريرة]
تجد ـ سبحان ـ الله سمعة المؤمن راقية جداً ، بل إن الله يلقي محبة المؤمن في قلوب الخلق :
ينادى له في الكون أنا نحبه فيسمع من في الكون أمر محبنا
و قد قال بعضهم في تفسير قوله تعالى :
[ سورة طه : الآية 39]
أي ألقيت حبك في قلوب الخلق ، فأنت حينما تتواضع لله ، و تفتقر إليه ، و تمرغ نفسك في أعتابه يرفعك ، أذكركم بقول نور الدين الشهيد ، السلطان الملك ، سجد ، و قال : يا رب ، من هو الكلب نور الدين حتى تنصره ، انصر دينك ، فأنت يجب أن تكون مؤمناً متواضعاً ، و التواضع يلهم صاحبه أساليب مقنعة ، فقد تجد إنساناً مع تواضعه وبعلم معقول ينفع أناساً كثيرين ، والإنسان يكون أعلم علماء عصره ، يوجد عبارات كثيرة لا تحتمل الآن ، وحيد عصره ، و فريد زمانه ، كلمات منمقة ، و مع ذلك أنت لا ترى أن هذا الكلام له معنى ، والله قديماً كانوا يكتبون الفقير إليه تعالى ، أحقر الورى ، والله يوجد لوحات بالمسجد النبوي الشريف لسلاطين فيها أن المذنب طالب المغفرة من الله عز وجل ، فكان السلف الصالح يتواضعون كثيراً ، الآن بقدر ما عندك ، شهادات ، أربعة اسطر تحت اسمه ، هذا لا يقدم و لا يؤخر ، أما عملك العظيم الخالص فهو الذي يرفعك عند الله .
آخر حديث ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ، شَيْخٌ زَانٍ ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ )) .
[ مسلم ، أحمد ]
يوجد قول في الأثر لطيف ، " أحب ثلاثاً ، و حبي لثلاث أشد : أحب الطائعين ، وحبي للشاب الطائع أشد ـ في مقتبل حياته ليس بالثمانين ـ قال لي شخص : أنا العداد قالب ، و الدولاب ماسح ، و سلمت النمر ، أي عبر عن تقدمه بالسن ، جميل جداً أن تجد شاباً في مقتبل حياته في طاعة الله عز وجل ، وما من شيء أحب إلى الله من شاب تائب ، إن الله ليباهي الملائكة بالشاب التائب ، يقول : انظروا عبدي ، ترك شهوته من أجلي ، فأحب ثلاثاً ، وحبي لثلاث أشد : أحب الطائعين ، و حبي للشاب الطائع أشد ، أحب المتواضعين ، وحبي للغني المتواضع أشد ، أحب الكرماء ، و حبي للفقير الكريم أشد ، وأبغض ثلاثاً ، وبغضي لثلاث أشد أبغض المتكبرين ، وبغضي للفقير المتكبر أشد ، وأبغض العصاة ، وبغضي للشيخ العاصي أشد ، وأبغض البخلاء ، وبغضي للغني البخيل أشد .
و الحمد لله رب العالمين
نور- عضو
- عدد المساهمات : 114
نقاط : 312
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 27/05/2010
العمر : 32
مواضيع مماثلة
» الترغيب في التواضع و الترهيب من الكبر...
» الترغيب في التواضع و الترهيب من الكبر...
» الترهيب من كثرة الكلام ...
» أدب التواضع في الأكل ثم حمد الله على نعمه
» الترغيب في الإخلاص والصدق والنية الصالحة ـ
» الترغيب في التواضع و الترهيب من الكبر...
» الترهيب من كثرة الكلام ...
» أدب التواضع في الأكل ثم حمد الله على نعمه
» الترغيب في الإخلاص والصدق والنية الصالحة ـ
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى