سورة الفاتحة (1)
صفحة 1 من اصل 1
سورة الفاتحة (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أيها الأخوة المؤمنون ، نحن بدأنا تفسير كتاب الله من سورة لقمان ، ولم نختم بعدُ كتاب الله سبحانه وتعالى ، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يمدنا جميعاً بقوة منه ، كي نتابع فهْمَ كتاب الله وتطبيقه والأخذَ به .
سوف نفسِّر إن شاء الله تعالى سورةَ الفاتحة ، لأن هذه السورة عظيمة القدرِ ، وكما قال عليه الصلاة والسلام :
(( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )) .
[ مسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ]
سماها النبي عليه الصلاة والسلام أساس القرآن ، وسماها أم القرآن ، وسماها فاتحة الكتاب ، ولها عشرة أسماء ، وقد جُمع القرآنُ في الفاتحة ، لهذه الأسباب كلِّها رأيت من المناسب أن أفسر سورةَ الفاتحةِ بعد السورِ القصيرة الأخيرة التي خُتم بها القرآن الكريم.
أولاً يقول ربنا سبحانه وتعالى :
(سورة النحل)
أجمع العلماء أن كلمة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ليست آية ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام ما كان يقرأ القرآن الكريم إلا ويتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، امتثالاً لقوله تعالى :
(سورة النحل)
العلماء قالوا مندوب أن نقرأها في غير الصلاة وواجب أن نقرأها في الصلاة ، فيجب أن نتعوذ بالله من الشيطان الرجيم في الصلاة ولكن سراً ، تقول : سبحانك اللهم وبحمدك ، تبارك اسمك ، وتعالى جَدُّك ، ولا إله غيرك ، سراً ، ثم تتعوذ بالله من الشيطان الرجيم سراً .
أما البسملة فالأكثرُ على أنها تُقرأ جهراً ، وأبو حنيفة رضي الله عنه يرى أن تُقرأ أيضاً سراً ، ومذهبُه رضي الله عنه يبدأ القراءة بقوله : الحمد لله رب العالمين ، لكن الأكثرَ على قراءة البسملة جهراً ، أما التعوذ فيجمعون على أنه يُقرأ سراً وهذا في الصلاة .
(( اسْتَبَّ رَجُلانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ ، وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ مُغْضَباً ، قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ لَوْ قَالَ : أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ )) .
[البخاري عن سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ]
إذا سافر عليه الصلاة والسلام وأدركه الليل ونزل في أرض فإنه كان يقول :
(( يا أرض ، ربي وربك الله ، أعوذ بالله من شرك ومن شر ما فيك وشر ما خلق فيك ، وشر ما يدب عليك ، أعوذ بالله من أسد وأسود ، ومن الحية والعقرب ، ومن شر ساكن البلد ، ووالد وما ولد )).
[رواه أبو داود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ]
النبي عليه الصلاة والسلام كان دائماً يتعوذ بالله ولاسيما في السورتين الأخيرتين :
(سورة الفلق)
وأيضاً :
(سورة الناس)
قال بعضهم : العوذ هو الالتجاء لقوي كي تتقي به الشر ، وأما اللوذ بمعنى لاذ به ، الاحتماءُ بقويٍّ من أجل أن يجلب لك الخير ، عاذ به ، ولاذ به ، عاذ اتقاء للشر ، ولاذ طلب الخير ، فربنا سبحانه وتعالى يأمرنا أن نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ، وأما كلمة الله فهي اسم الله الأعظم الجامع للأسماء الحسنى كلها ، وهو عَلَمٌ على الذات ، وأكبر أسماء الله اسم الله الأعظم ، يجمع كل أسمائه ، أعوذ بالله ، يعني أعوذ بالله الرحيم ، أعوذ بالله الحكيم ، أعوذ بالله اللطيف ، أعوذ بالله القوي ، أعوذ بالله الغني ، أعوذ بالله العادل ، أعوذ بالله الفرد ، الصمد ، الواحد ، الأحد ، القهار ، الجبار ، أعوذ بالله الودود ، إذا قلت : الله ، فإن الأسماء الحسنى كلها جمعت في كلمة الله ، لو قال قائل : أعوذ بالرحيم ، والأمر محتاج إلى قوة ، فهذه الاستعاذة لا تصح ، أما أعوذ بالله إن كنت تخاف شيئاً قوياً فَعُذْ بالله فهو القوي ، وإن كنت بحاجة إلى رحمة فعذ بالله فهو الرحيم ، وإن كنت بحاجة إلى إمداد فعذ بالله فهو رب العالمين ، وإن كنت بحاجة إلى لطف فعذ بالله فهو اللطيف الخبير ، وإن كنت بحاجة إلى علم فعذ بالله فهو العليم الخبير ، فكلمة أعوذ بالله يعني أنا ألتجئ إلى الذات الكاملة التي جمعت الأسماء الحسنى كلها ، قال تعالى :
(سورة الأعراف)
لِمَ سُمِّي الشيطان شيطاناً ؟ لأنه شَطَنَ ، بمعنى ابتعد وخرج عن طريق الحق ، والله سبحانه وتعالى حينما خلقنا رسم لنا منهجاً ، قال تعالى :
(سورة البقرة)
وقال :
(سورة طه)
وقال :
(سورة فصلت)
ما دمت على المنهج الإلهي فلا تخف ولا تحزن ، قال تعالى :
(سورة المائدة)
إذا اتبعت رضوان الله سبحانه وتعالى يهديك بمنهجه إلى سبلِ السلام ، سلام في بيتك ، سلام في صحتك ، سلام في أولادك ، سلام في تجارتك ، سلام في عملك ، سلام في ماضيك ، سلام في حاضرك ، سلام في مستقبلك ، سلام في خريف عمرك :
(سورة المائدة)
عندما يطبق الإنسان المنهج الإلهي يَسْلَم ، وللإيضاح أضرب مثلاً بآلة ثمينة جداً ، معها تعليمات دقيقة جداً من خبراء الشركة ، إذا اتبعتَ التعليمات فإن هذه الآلة تخدمك إلى أمد طويلٍ طويل ، وإذا خالفتَ التعليمات فسوف تصاب بالعطب ، وتخسرها ، وتخسر ثمنها ، إذاً مَن هو الشيطان ؟ ذلك المخلوق الذي خرج عن المنهج القويم ، الذي رسمه الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين ، لذلك قال الله تعالى :
(سورة الإسراء)
من منا لا يحب أن يعيش حياةً سعيدة فيها سلام ، وفيها رضا ، فيها طمأنينة ، وفيها ثقة بالله ، من منا لا يحب أن ينجو من الخوف ، وأن ينجو من القلق ، أن ينجو من القهر ، وأن ينجو من الألم :
(سورة المائدة)
إذاً الشيطان ذلك المخلوق الذي خرج عن المنهج الإلهي ، وكل مخلوق خرج عن المنهج الإلهي فهو شيطان ، هناك شياطين الإنس ، وهناك شياطين الجن ، قال تعالى :
(سورة القصص)
يعني خرج عن طريقتهم الصحيحة ، قال تعالى :
(سورة طه)
الطغيان خروج عن طريق الحق ، والبغي خروج عن طريق الحق ، والشطن خروج عن طريق الحق ، والفسق خروج عن طريق الحق ، قال الله سبحانه وتعالى :
(سورة الأنعام)
وقال :
(سورة الكهف)
يُحمد الله مرتين ؛ مرةً على خلق السماوات والأرض ، ومرة على هذا المنهج القويم الذي أنزله على أنبيائه .
ملخص الكلام أن لله في الأرض منهجاً ، وأن لله في الأرض قرآناً ، وشرَعَ لنا شرعاً ، فما دمت ضمن الشرع فأنت في سلام ، في حياتك الدنيا ، ويوم تقوم الساعة ، ويوم تقوم القيامة ، وأنت في جنات عدن خالداً فيها إلى أبد الآبدين ، مادمت وفق هذا المنهج ، فإذا خرجت عنه تدفع الثمن ، ما دمت في طاعة الله فأنت في ظل الله وذمته ، فإذا خرجت عن طاعته خرجت من حيّز ظله ، تحمَّل المتاعب حينئذٍ ، جاء أعرابي النبي عليه الصلاة والسلام فقال : يا رسول الله عظني وأوجز ، قال : قل آمنت بالله ثم استقم ، قال : أريد أخفَّ من ذلك ، قال إذاً فاستعد للبلاء .
قضية واضحة كالشمس ، إما أن تطبق التعليمات ، وإما أن تستعد للبلاء ، قل أعوذ بالله من الشيطان ، هذا المخلوق الذي طغى ، والذي غوى ، والذي بغى ، والذي شطن بمعنى ابتعد ، وبعضهم قال : الشيطان من شاط ، بمعنى احترق ، احترق بنار البُعد ، شقي بالبعد ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :
((.. فالناس رجلان رجل بَرَّ تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله ..))
[الترمذي والبيهقي عن ابن عمر]
أي لو أن في الأرض إنساناً واحداً بعيداً عن الله ، وهو يعيش سعيداً رغْمَ بُعْده عن الله لكان هذا الدين باطلاً ، ولو أن إنساناً واحداً كان متصلاً بالله ، وهو شقي في حياته رغمَ طاعته وتقواه لكان هذا الدين باطلاً ، قال تعالى :
(سورة طه)
وقال :
(سورة النحل)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، الرجيم أي البعيد ، والأصح من كلمة البعيد المُبعَد لأنه خرج عن طريق الحق ، وشطن ابتعد فاحترق فأبعد ، قال تعالى : الشيطان يعدكم الفقر ، الشيطان يخوفكم ، الشيطان يأمركم بالفحشاء من طريق الأمر بالفحشاء ، يغريك بالمعاصي ، يزين لك المعاصي ، يعدك بالفقر ، يوسوس لك إذا أنفقت مالك تبقى فقيراً ، ثماني آيات في كتاب الله تَعِدُ الذين ينفقون أموالهم بالتعويض الجزيل قال تعالى :
(سورة البقرة)
وقال :
(سورة سبأ)
وقال :
(سورة النساء)
إذاً :
[سورة النحل]
إذا قرأته خارج الصلاة فهذا مندوب ، أما إذا قرأته في الصلاة فهذا واجب ، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يعوذ بالله من كل شيء ، من دار يدخلها ، ومن دابة يركبها ، كان إذا ركب دابة يقول :
(( أعوذ بالله ، اللهم إني أسألك خير هذه الدابة ، وخير ما خُلقت له ، وأعوذ بك من شرها ، وشر ما خلقت له .))
[ورد في الأثر]
الاستعاذة بالله من دابة ، من بيت ، من عمل لا يرضي الله عز وجل ، من رفقاء السوء ، من نزهة قد تكون فيها النهاية الوبيلة .
الإنسان المؤمن من علامة إيمانه أنه دائماً يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم أنْ يضله ، أو أن يغريه ، أو أن يفسده ، أو أن يفتنه ، أو أن يحمله على معصية ، أو أن يوسوس له ، أو أن يبعده عن أهل الحق ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .
أما كلمة ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ فلها حديث طويل ، يقول الله سبحانه وتعالى في سورة النمل :
(سورة النمل)
النبي عليه الصلاة والسلام من سنته المطهرة أنه كان يبدأ كل أفعاله ببسم الله الرحمن الرحيم ، ونحن نرى على مقدمة الكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، وفي أكثر المجالات بسم الله الرحمن الرحيم ، وأصبحت تقليداً ، قد يكون الكتاب يتحدث عن نظرية داروين ، ويبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم ، البسملة خلاف المضمون .
الموضوع في ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ ، أن هذه الباء حرف جر ، أي أبدأ بسم الله ، وأسماء الله كلها حسنى ، الرحمن الرحيم ، كأن الكلام ناقص ، هناك فعل يتعلق بهذه الباء ، يعني أبدأ عملي بسم الله ، آكل بسم الله ، أؤلف هذا الكتاب بسم الله ، أصدر هذا الحكم كقاضي بسم الله ، فما معنى بسم الله ؟
إذا أردت أن تأكل ، وقلت : ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ ، هناك معنيان لهذه البسملة :
1ـ المعنى الأول أن طعامك وشرابك وغير ذلك إنما هو من نعمِ الله عز وجل :
أن هذا الطعام الذي تأكله إنما هو من نعمِ الله عز وجل ، فكل هذا الطعام باسم الرزاق ، كل هذا الطعام باسم المغني ، بسم المقيت ، بسم المجيد ، بسم الواهب ، بسم اللطيف ، بسم الله ، الله كما قلت قبل قليل : اسم جامع لأسماء الله الحسنى ، فإذا قلت : باسم الله فالبسملة بحسب الموضوع الذي أنت بصدده ، فإذا أكلت ، وقلت : بسم الله الرحمن الرحيم ، يعني أنك آمنت بأن هذا الذي تأكله من صنع الله فهل فكرت في ذلك ؟ وأن الله سبحانه هو الرزاق ، قال تعالى :
(سورة يس)
إذا شربت كأس ماء وقلت بسم الله الرحمن الرحيم ، هل فكرت في أن هذا الماء أصله شمس سُلطت على بحار شاسعة ، فتبخر ماؤها ، وتقطر ، وأصبح بخاراً عالقاً في الجو ، واجتمع سحباً ساقته الرياح إلى أرض عطشى ، أنزله الله بفضله وبقدرته ماءً ثجاجاً أنبت به الزرع والزيتون ، أودعه في الجبال ، فجره ينابيع ، أساله أنهاراً ، فالشمس ساهمت في هذا الكأس ، والمجرات ، والأنواء ، والمناخ ، والرياح ، والحرارة ، والبرودة، والجبال ، فإذا قلت : ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ أي هل فكرت بسم الرزاق ، باسم المعطي ، باسم الواهب ، باسم الغني ، ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ ، يعني أشرب الكأس بسم الله الرحمن الرحيم .
2ـ المعنى الثاني أن لله في خلقه سنةً :
أن لله في خلقه سنةً ، في شرب الماء إذا قلت : ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ فلا ينبغي أن تشرب الماء خلاف السنة ، أن تشربه مصاً ، ولا تعبه عباً ، أن تشربه على ثلاث مراحل ، أن تشربه وتحمد الله عز وجل ، أن تبعد الإناء عن فيك ، ألا تتنفس في الإناء ، هذه سنة النبي المطهرة ، نهانا عن التنفس في الإناء .
الآن ثبت أن هناك أمراضاً تنتقل عدواها عن طريق الزفير الذي يختلط بالماء المشروب ، فقال عليه الصلاة والسلام :
(( أَبِنْ القدح عن فيك .))
[رواه البيهقي وسمويه عن أبي سعيد الخدري]
بين الشربتين أَبِنْ القدح عن فيك ، لئلا يختلط النَفَس بالماء ، وكان عليه الصلاة والسلام قد قال :
(( مصوا الماء مصاً ولا تعبوه عباً ، فإن الكباد من العب .))
[رواه ابن السني والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها]
مرض الكبد يأتي من عب الماء ، وكان عليه الصلاة والسلام إذا شرب حمد الله وكل هذا من سنته المطهرة ، إذا قلت : ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ لها معنيان ، الأول : هل فكرت في هذه النعم ؟ والثاني : هل أنت مطبق سنة رسول الله في شرب الماء ؟ هذا في الشرب .
في الطعام ، قال تعالى :
(سورة الأعراف)
كلوا واشكروا له :
(( الحمد لله الذي أطعمني فأشبعني ، وسقاني فأرواني .))
[أبو يعلى عن عبد الله بن قيس]
(( إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها .))
[رواه مسلم عن أنس رضي الله عنه]
ليرضى عن العبد ، يعني إذا أكل الإنسان وشبع فليقل : الحمد لله ، فإذا قلت : بسم الله فهذه التسمية تعني أنْ فَكِّر في هذه النعم ، وأنها من رزق الله تعالى ، وطبق أمر الله في الطعام ، وإذا دخلت البيت وقلت : ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ ، قال الله عز وجل :
(سورة النساء)
إذاً بيوتكم أولى بالسلام على مَن فيها ، والنبي صلى الله عليه وسلم قال فيما معناه : إن الرجل إذا دخل بيته ولم يسلم على أهله قال الشيطان وجدنا المبيت ، فيبيت الشيطان في المنزل ، ويعيث فيه فساداً ما شاء له أن يعبث تلك الليلة ، إذاً إن هذا أمر الله ، وهو أن تسلم إذا دخلت المنزل ، وإذا قلت : بسم الله ، وفتحت باب المنزل ، فلتقل أيضاً : الحمد لله الذي آواني ، فكم من الناس من لا مأوى له ، هل شعرت أن هذه نعمة ، نعمة المأوى كبيرة جداً ؟ كم ممن لا مأوى له ، في أكثر دول شرقي آسيا ينام الناس على الأرصفة ، يتخذون بيوتاً قوارب في الأنهار ، في بعض الدول الفقيرة تشاهد الآلاف ينامون هم وزوجاتهم وأولادهم على الرصيف ، وصار ذلك منظراً مألوفاً جداً في بلادهم ، فإذا كنت في بيت وفتحت باب البيت وقلت : ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ ، فمعنى ذلك : الحمد لله الذي آواني ، وتذّكرت كم من الناس مَن لا مأوى له .
هل رأيت نعم الله عز وجل ؟ إذا فتحت الماء لتتوضأ ، وقلت : بسم الله الرحمن الرحيم ، هل عرفت أن هذه نعمة لا تُقدر بثمن ، نعمة الماء داخل المنزل ، الآن إذا دخلت إلى البيت وقلت : بسم الله الرحمن الرحيم ، يعني :
(سورة النساء)
(( أكرموا النساء فو الله ما أكرمهن إلا كريم ، ولا أهانهن إلا لئيم ، يغلبن كل كريم ، ويغلبهن لئيم ، وأنا أحب أن أكون كريماً مغلوباً من أن أكون لئيماً غالباً .))
[ورد في الأثر]
يعني البسملة ، إذا قدت سيارتك وقلت : بسم الله الرحمن الرحيم ، فليبادر ذهنك إلى أين أنت ذاهب ؟ هل أنت ذاهب إلى مكان لا يرضي الله عز جل ، فيتناقض ذلك بين البسملة وبين هذا المكان ، فتنثني عن ذهابك عندئذٍ وتعود إلى صوابك .
هل تشكر الله على نعمة المركب ؟ هل تسخرها لعباد الله ؟ هل تعين بها الضعيف ؟ هل تنقذ بها المريض ؟ القضية واسعة جداً ، النبي عليه الصلاة والسلام ، قال :
((كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر .))
[أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة]
يعني : مقطوع الخير ، ألَّفت كتاباً ، هل تذكر في الكتاب شيئاً باطلاً ، فإذا كتبت في صدر صفحاته بسم الله ، فإنك تدقق : هل هدفك من هذا التأليف خالص لوجه الله أم تبتغي به السمعة والرفعة ، بسم الله تجعلك على بصيرة من الأمر .
هذه البسملة تضعك أمام شيئين ، تذكرك بنعم الله عز وجل ، وأن هذا من نعمة الله ، وتذكرك بأمر الله في هذا الموضوع ، في الطعام ، في الشراب ، في دخول المنزل ، في الخروج إلى السوق ، وكان النبي الكريم يعوذ بالله من صفقة خاسرة إذا دخل السوق ، ويمينٍ فاجرة ، يقول لك البائع : الله وكيلك بعتُك برأسمالها ، وهو يكذب ، لقد باع دِينَه كله بكلمة واحدة ، النبي كان يعوذ بالله من يمين فاجرة ، ومن صفقة خاسرة ، فإذا جمع الإنسان مالاً من حرام فإنّ الله عز وجل يريه أن هذه الصفقة فيها ربح وفير فيشتريها ، ويكون إفلاسه عن طريقها ، هذا الذي جمعه من حرام أذهبه الله في صفقة خاسرة ، فإذا دخل الإنسان إلى السوق فهناك بسملة ، إذا دخل بيته فهناك بسملة ، إذا ركب في مركبة فهناك بسملة ، إذا شرب الماء ، إذا تناول الطعام ، حتى إذا التقى مع أهله فهناك بسملة ، لئلا تأتيك ذرية سيئة ، بسم الله ، فهذه الباء تعني التجئ وألوذ بسم الله ، آكل بسم الله ، أتزوج بسم الله ، أدخل إلى بيتي بسم الله ، دائماً هذه البسملة تذكرك بأسماء الله الحسنى ، وتذكرك بأوامره المثلى ، ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ .
وبعد فالحقيقة إن العلماء حاروا في الفرق بين الرحمن والرحيم .
قال بعضهم : الرحمن بخلقه جميعاً ، والرحيم بالمؤمنين .
وقال بعضهم : الرحمن بجلائل النعم ، والرحيم بدقائقها .
وقال بعضهم : الرحمن في الأولى ، والرحيم في الآخرة .
وقال بعضهم : الرحمن في ذاته ، والرحيم في أفعاله .
وهذا الأخير من أوجه التفسيرات ، لأنك قد تلتقي بطبيب يرى مريضاً فيسرع إلى إنقاذه أمام ملأ من الناس ، فإنقاذُ هذا المريض يكسب الطبيبَ سمعةً طيبة ، فنقول : هذا الطبيب رحيم ، لكن الطبيب لا ينطوي على رحمة في قلبه ، بل فعَلَ هذا ابتغاء السمعة ، فهو رحيم ، لكنه لم ينطلق في عمله من رحمة في قلبه .
هناك فرق بين الرحمن والرحيم ، الرحمن في ذاته ، والرحيم في أفعاله ، ذاته رحيمة ، وأفعاله رحيمة ، الرحمن الرحيم ، والرحمة شيء يبعث الراحةَ في النفس ، فالمطر من رحمته ، تهطل الأمطار فتمتلئ الينابيع ، وينبت النبات ، وتثمر الأشجار ، ونأكل ، وترخص الأسعار ، فهذا من رحمته ، والأبناء من رحمته ، يبدلون سكون البيت حركة وحياة ، ويبعثون الأنس في البيت ، وإذا كبر الابن يعين والديه ، فالابن رحمة من الله ، قال تعالى :
(سورة الأنعام )
وهبنا له ، فالرحمة كل شيء يرتاح له الإنسان ، فأن تعمل هذه الأجهزة عملاً منتظماً فهو من رحمة الله ، وأن تأكل طعاماً لذيذاً فهو من رحمة الله ، وأن تشرب ماءً عذباً فراتاً فهو من رحمة الله ، وأن تسكن إلى زوجة ، تطيعك إذا أمرتها ، وتسرك إذا نظرت إليها ، وتحفظك إذا غبت عنها ، فهو من رحمة الله ، وأن ترى طفلاً كالملاك يتحرك في البيت ، فهو من رحمة الله ، وإن كان لك عملٌ يدرُّ عليك دخلاً فهو من رحمة الله ، وإذا ذهبت إلى بستان فمتعت النظر بجماله فهو من رحمة الله ، وإذا هبت نسمات لطيفة عَطَّلت عمل المكيفات ، وأوقفته فهو من رحمة الله ، وإذا كان الدفء فهو من رحمة الله ، فالرحمة الشيء الذي يرتاح له الإنسان ، فالله سبحانه وتعالى خلقنا ليرحمنا قال تعالى :
(سورة هود)
ليرحمنا في الدنيا ، ويرحمنا في الآخرة ، أما أن يقول الإنسان : سبحان الله ، خلقنا الله ليعذبنا ، هذا كلام الشيطان ، ما خُلقت يا أخي للعذاب بل خُلقت للرحمة ، كي يسعدك في الدنيا والآخرة .
في الدنيا إذا آمنت بالله يمتعك إلى حين ويؤتي كل ذي فضل فضله ، حتى في الدنيا فيها سعادة ، وفيها سرور لمن أطاع الله عز وجل :
(سورة النساء)
خلقنا ليرحمنا هذا هو الهدف الإلهي الكبير ، ولكن العذاب الذي يعذبنا الله به من صنع أيدينا ، من معاصينا ، من ضلالنا ، من انحرافنا ، من طغياننا ، مِن بُعْدِنا ، ومن تقصيرنا ، حتى الهمُّ يهتم له الإنسان إنه انعكاس لأعماله الزائغة .
بعضهم قال : هذه البسملة ينبغي أن تدور مع الإنسان في كل نواحي حياته ، وفي كل نشاطاته ، إذا قام ليتوضأ ، إذا دخل البيت ، إذا قام ليأكل ، إذا قام ليشرب ، قمت لتأكل فقلت بسم الله الرحمن الرحيم ، النبي أمرنا بالوضوء قبل الطعام ، ووضوء الطعام ليس وضوءاً كاملاً ، غسل اليدين والفم فقط :
(( وبركة الطعام الوضوء قبله ، والوضوء بعده .))
[أبو داود والترمذي عن سلمان]
أجمع العلماء على أن وضوء الطعام غير وضوء الصلاة ، وضوء الطعام غسل اليدين والفم ، كنت في الطريق ، غبار ، صافحت إنساناً ، أمسكت بحذائك ، يعني هذه اليد أمسكت بأشياء كثيرة ، بركة الطعام الوضوء قبله ، فلو قمت إلى الطعام فقلت : بسم الله الرحمن الرحيم ، قف اذهب واغسل يديك وفمك ، هذا معنى ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ .
قال تعالى :
(سورة الفاتحة)
الآن نبدأ بالفاتحة ، الفاتحة سماها النبي عليه الصلاة والسلام الصلاة ، لقوله :
(( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب .))
[متفق عليه عن عبادة بن الصامت]
شيء آخر سُميت الفاتحة بسورة الحمد لأنها مصدرة بالحمد لله رب العالمين ، وسميت فاتحة الكتاب لأن القرآن الكريم افتتح بها ، وسميت أم الكتاب ، وأم الشيء أصله ، ربنا عز وجل قال :
(سورة آل عمران آية 7 )
آيات الفاتحة كلها آيات محكمات ، الفاتحة سماها النبي عليه الصلاة والسلام أم الكتاب ، وسُميت أم القرآن ، فقد قال عليه الصلاة والسلام :
((الحمد لله أم القران وأم الكتاب والسبع المثاني .))
[الترمذي عن أبي هريرة]
سميت الشفاء ، لأنه عليه الصلاة والسلام قال :
(( في فاتحة الكتاب شفاء من كل داء .))
[البيهقي عن عبد الله بن جابر]
سُميت الأساس ، أساس الكتاب القرآن ، يعني أساس الكتب السماوية القرآن ، وأساس القرآن الفاتحة ، وسُميت الوافية ، وسميت الكافية ، فقد قال عليه الصلاة والسلام :
(( أم القرآن عوض عن غيرها ، وليس غيرها عوضاً عنها .))
[الحاكم عن عبادة بن الصامت]
وقد ورد في تفسير القرطبي : " إن جميع القرآن فيها " .
أذكر حديثاً روى عن الحسن البصري ـ رحمه الله ـ أنّ الله أنزل مئة كتاب وأربعة كتب ، جمع سرّها في الأربعة ، وجمع سرّ الأربعة في القرآن ، وجمع سرّ القرآن في الفاتحة ، وجمع سرّ الفاتحة في هاتين الكلمتين : ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ . قال النبي عليه الصلاة والسلام :
(( إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ، أو يشرب الشربة فيحمده عليها .))
[مسلم عن أنس بن مالك]
سأتلو عليكم حديثاً شريفاً يبعث في أنفسكم الطمأنينة هو :
(( الحمدُ على النعمة أمانٌ لزوالها .))
[الديلمي عن عمر]
أية نعمة تحمد الله عليها لن تزول ، ولن تضيع ، وأن تقول الحمد لله على النعمة أمان من زوالها ، وهناك حديث دقيق جداً يقول الحسن : " ما من نعمة إلا والحمد لله أفضل منها ." كيف ؟
يعني إذا أعطاك الله نعمة الصحة ، وكنت شديداً عتيداً قوياً نشيطاً كالحصان ، لا بد من سنوات تمضي وتمضي حتى يأتي الأجل ، ويموت الإنسان فأين هذه النعمة ؟ زالت ، لكنك إذا حمدت الله عليها ، وارتقت نفسك في مدارج الحمد ، وسَمَتْ سعدت بحمدك إلى الأبد ، إذاً الحمد على النعمة أفضل من النعمة نفسها قال الحسن : "ما من نعمة إلا والحمد لله أفضل منها " .
لو أنك وهبت زوجةً صالحة ، فأعانتك على متاعب الحياة ، وحصنتك ، وسكنت إليها ، فلا بد من ساعة تفارقها ، أو تفارقك ، إما أن تفارقها أولاً ، وإما أن تفارقك أولاً ، لكنك إذا حمدت الله على نعمة الزوجة الصالحة فإنّ هذا الحمد تسعد بثوابه إلى أبد الآبدين .
لذلك لقي أحدُهم شريحاً القاضي ، فقال : يا شريح كيف حالك في بيتك ؟ قال : منذ عشرين سنة لم أجد ما ينغص حياتي ، أو يعكر صفائي ، قال : وكيف ذلك ؟ قال : خطبت امرأة من أسرةً صالحة ، فلما خلوت بها ، صليت ركعتين شكراً لله على نعمة الزوجة الصالحة ، فلما سلمت وجدتها تصلي بصلاتي ، وتسلم بسلامي ، وتشكر بشكري ، فلما دنوت منها قالت : على رسلك يا أبا أمية ، إني امرأة غريبة ، لا أعرف ما تحب ، ولا ما تكره ، فقل لي ما تحب حتى آتيه ، وما تكره حتى أجتنبه ، ويا أبا أمية لقد كان لك من نساء قومك من هي كفء لك ، وكان لي من رجال قومي من هو كفء لي ، ولكن كنت لك زوجة على كتاب الله وسنة رسوله ، فاتقِ الله فيّ ، وامتثل قوله تعالى :
(سورة البقرة)
قال : ثم قعدتْ ، يعني هذه الزوجة الصالحة تنتظر ردّ زوجها ، ذكرت هذه القصة للإفادة مما فيها من عِبر ، فالقاضي شريح ، حينما دخل على زوجته الصالحة صلى ركعتين صلاة الشكر ، إذاً الحمد على النعمة آمان من زوالها ، أية نعمة ، نعمة الصحة لن تزول ، يمتعك الله بسمعك ، وبصرك ، وعقلك ، وقوتك ما أحياك ، هل تغض الطرف عن محارم الله هذه العين لن تُفجع بها ، هل تمسك أذنك عن سماع أي صوت لا يرضي الله ، هذه الأذن لن تفجع بها ، هل ينطق لسانك بالحق ، ولا ينطق بالباطل ، هذا اللسان لن تُفجع به ، هذه الذاكرة ، تستخدمها لماذا ؟ بالحق أم بالباطل ؟ إن استخدمتها في حفظ كتاب الله ، وحفظ أحكام الله ، وحفظ الأحاديث الشريفة ، فإن الله سبحانه وتعالى لن يفجعك بها ، وهذه اليد ، وهذه القوة وغير ذلك من النعم ، فالحمد لله على النعمة أمان من زوالها .
قال عليه الصلاة والسلام :
(( ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله إلا كان الذي أعطاه أفضل مما أخذ))
[ابن ماجة عن أنس بن مالك]
العبد ماذا أعطي ؟ هذه الكلمة ، كلمة الحمد لله ، هذه الكلمة التي أعطاها العبد لربه أفضل عند الله مما أخذ ، لو أخذ بيتاً ثمنه خمسة ملايين ، وقال : يا رب لك الحمد ، فكلمة الحمد لله أفضل عند الله من هذا البيت ، لأن هذا البيت مصيره إلى الخراب ، لكن هذا الحمد يسعد به الإنسان إلى الأبد ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :
(( لو أن الدنيا كلها بحذافيرها بيد رجل من أمتي ثم قال الحمد لله لكانت الحمد لله أفضل من ذلك كله .))
[الديلمي وابن عساكر وابن النجار عن أنس]
الدنيا بحذافيرها يعني بيوتها الفخمة ، وبساتينها النضرة ، ومالها الوفير ، ونساءها الجميلات ، ومراكبها الفخمة ، كلمة الحمد لله يعني أنك تعرف الله ، وإذا عرفته عرفت كل شيء وإذا فتّه فاتك كل شيء ، لو أن الدنيا بحذافيرها بيدك وقلت : الحمد لله ، فكلمة الحمد لله أفضل عند الله من الدنيا وما فيها .
لذلك العلماء حاروا أيهما أفضل ، الحمد لله ، أم لا إله إلا الله ؟ هناك أقوال تقول : إن الحمد لله أفضل ، وبعضهم قال : لا إله إلا الله أفضل ، لكن كلمة الحمد لله هي الحمد الأولى في كتاب الله تبارك :
(سورة الفاتحة)
أما الحمد ، لمَ لم يقل الله عز وجل حمداً لله رب العالمين ، بل قال سبحانه : الحمد لله ؟ قالوا : هذه الألف واللام لاستغراق الحمد كله ، يعني الحمد كله بحذافيره كله ، وجزؤه ـ مهما كان حجمه ـ صغيره وكبيره لله عز وجل .
لا يوجد جهة أخرى تستحق الحمد إلا الله ، أبداً ، أصغِ سمعك إلى قول ربنا عز وجل :
(سورة آل عمران)
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أرحم الخلق بالخلق ، لو جمعت رحمة أمهات الأرض منذ آدم إلى يوم القيامة لا تعادل رحمة النبي بأمته ، قال تعالى :
(سورة التوبة)
(( أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في أمر الله عمر ... ))
[أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي عن أنس]
أما أرحم الخلق بالخلق النبي عليه الصلاة والسلام ، يعني أرحم بك من نفسك ، ومع ذلك قال الله عز وجل :
(سورة آل عمران)
قال ربنا عز وجل :
(سورة الكهف)
ما الفرق بين "رحمة" المُنكَرة في آية آل عمران ، و"الرحمة" المُعرَّفة في آية سورة الكهف ؟ قال هذه الرحمة الثانية ، هذه ليست أل التعريف ، إنما للاستغراق ، يعني الرحمة كلها من الله ، والنبي عليه الصلاة والسلام أوتي طرفاً منها .
الآن الحمد كله لله ، ذكرت قصة قبل شهر أو أكثر أن الحَجَّاج أمر بضرب أعناق عشرة رجال ، فأذن المغرب ، وبقي رجل لم تضرب عنقه ، فقال لأحد وزرائه : خذه إلى بيتك وائت به غداً ، هذا الرجل في الطريق قال له : والله لم أخرج على طاعة الأمير ، وما آذيتُ أحداً من المسلمين ، فهل تأذن لي أن أذهب لأهلي فأوصي قبل أن أموت وأرى أولادي ، واكتب وصيتي ، فضحك هذا الوزير وقال : أو مجنون أنا ! فقال : عهداً لله إن أطلقتني لأعودَنَّ إلى بيتك قبل الفجر ، فما زال هذا الرجل يقنعه حتى سمح له ، فلما سمح له شعر بضيق لا يُحتمل ، قال : نمتُ أطول ليلة في حياتي ، لأنه سيموت مكانه غداً ـ مكان الرجل ـ إن لم يرجع ، ما إن أذن الفجر حتى طُرق الباب ، وجاء هذا الرجل الذي عاهده على أن يعود ، جاء ليموت ، فلما كان الغد ذهب به إلى الحجاج فقال له : سأنبئك بما حصل البارحة ، فلما أنبأه قال له الحجاج : أتحب أن أهبه لك ، قال : نعم ، قال: إذاً هو لك ، يعني ما دام عنده هذا الوفاء عَفَوْنا عنه ، فلما خرج قال له : يا هذا اذهب لوجهك ، فهذا الذي عُفي عنه لم يتكلم ، ولم ينظر إليه ، ولم يشكره ، ولم يقل كلمة ، إلا أنه توجه إلى السماء ، وقال : الحمد لله .
هذا الذي سعى بإطلاق سراحه وتخليصه من الموت المحتم تألم ! لو أنه شكرني ، قال : ثم جاءه بعد ثلاثة أيام و قال : أحمدك على عملك ، ولكنك حين قلت لي : اذهب لوجهك كرهت أن أحمد مع الله أحداً .
الإنسان أحياناً يلوح له شبح مصيبة ، كأن يصاب بورم لم يعرف أهو خبيث أم غير خبيث ؟ أجرى تحليلاً ، فإذا هو ورم طبيعي ، أول شيء عليه أن يقول : الحمد لله رب العالمين ، ولا تحمد مع الله أحداً .
هناك التهاب في السحايا على وشك الوفاة مع الابن الأصغر ، فنجا من الموت بتوفيق الله وقدرته ، لا تقل : واللهِ إنّ الطبيب لا يفهم ، قال لي : اجرِ تحليلاً في وقت مبكر قل : الحمد لله رب العالمين ، فلذلك الحمد لله رب العالمين أساس معرفة العبد بربه ، هناك حديث دقيق جداً ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده .))
[عبد الرزاق والبيهقي عن ابن عمرو]
قال بعضهم : الحمد حالة نفسية ، والشكر سلوك ، فليس هناك سلوك شاكر إلا على أساس حالة حمد ، فإذا لم يكن عند الإنسان حالة حمد فسلوكه باطل ، وهو في حالة نفاق ومداهنة :
(( الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده .))
[عبد الرزاق والبيهقي عن ابن عمرو]
الحمد أولاً والشكر ثانياً ، قال تعالى :
(سورة سبأ)
الشكر عمل ، ﴿ اعْمَلُوا آَلَ داود شُكْراً ﴾ ، أما الحمد فهو حالة نفسية ، أحياناً يقدم لك إنسان خدمة تحس أنك ممتن من أعماقك منه ، تعبر عن الامتنان أحياناً بخدمة ، أحياناً بكلمة طيبة ، أحياناً بقولك جزاك الله عني كل خير ، ولكن هذا الكلام أو هذه الخدمة أساسها حالة نفسية شعرت بها هذا هو الحمد .
أنت في الصلاة تصلي الفرض ، الفروض فقط في اليوم سبعة عشر ركعة ، ومثلها سنن ، يعني تقول : الحمد لله في الصلاة حوالي أربعين مرة ، هل أنت في مستوى هذه الآية ؟ يعني راض عن الله عز وجل ، راض عن صحتك ، عن دخلك ، عن ضيقك ، عن عملك ، راضٍ وأنت من أصحاب الدخل المحدود ، أم ترى نفسك دائماً أنك محروم ، إذا كان دخل الرجل محدوداً مثلاً يقضي عمره كله غير راضٍ ، بينما يجد بائع فلافل دخله خمسة آلاف وهو أميّ ، يقول صاحب الدخل المحدود : أنا حائز على شهادة ليسانس ، ودخلي فقط ألف ومائتان بالشهر تقريباً ، فهو دائماً غير راضٍ ، أما إذا كان مؤمناً وقال : الحمد لله رب العالمين ، فليس عنده حرمان أبداً ، إن نعمة الرضا أكمل نعمة ، لو جاءك مئة مليون في الشهر وأنت على ضلال فالنهاية إلى جهنم ، أما المؤمن فكلمة الحمد لله رب العالمين تدل على أنه راضٍ عن الله عز وجل : يا رب هل أنت راضٍ عني ؟ قال : يا عبدي هل أنت راض عني حتى أرضى عنك .
هل أنت راض عن الله عز وجل ؟ هل تقول الحمد لله من أعماقك ، من أعماق أعماقك ؟ أراضٍ ، وليس عندك إلا بنات فقط ، وليس عندك ولا ذكر واحد ، فهل أنت راضٍ ؟ هل رأيت حكمة الله عز وجل أنه يحبك على هذا ، ليس عندك أولاد إطلاقاً ، بل عقيم راض عن الله عز وجل ، عندك زوجة سيئة الخلق ، فهل أنت راض بها ؟ هل ترى أن الله شاءت حكمته أن تكون كذلك ؟ لك عمل محدود دخله ، أنت في مرض عضال مزمن بشكل مستمر تعاني من بعض الأمراض هل تقول الحمد لله رب العالمين ؟ هذه البطولة .
ليس من يقطع طرقاً بطلاً إنما من يتق الله البطل
***
الحمد لله في السراء والضراء ، في الغنى والفقر ، في القوة والضعف ، في إقبال الدنيا وإدبارها ، في الرفعة والضعة ، في العز والذل ، الحمد لله على كل حال ، الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه ، المكروه نعمة ، لكنه نعمة باطنة .
الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نحمده ، وأمرنا ألا نحمد أحداً معه كيف ؟ قال تعالى :
(سورة النجم)
مثلاً نراك تحاضر محاضراتٍ كثيرة عن زيد وعبيد ، وقد تكون مجانباً الحق في كثير مما تحاضر ، إذاً فإنه لا يستحق الحمد إلا الله ، وإذا سئلت تقول : الله أعلم بحاله ذلك علمي به ، وعن الصديق تقول : ذلك علمي به ، فإن بدل وغير فلا أعلم الغيب ، لم اختار سيدنا أبو بكر سيدنا عمر ؟ ألم يقل : لا أعلم من هو خير منه ؟ وقال : ذلك علمي به فإن بدل وغيّر فلا أعلم الغيب ، الله قال :
(سورة النجم)
هنيئاً لك أبا السائب لقد أكرمك الله ، كان النبي عليه الصلاة والسلام عند صحابي متوفى ، كشف عن وجهه فقبله ، سمع امرأة تقول :
(( هنيئاً لك أبا السائب الجنة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وما يدريك يا أم معاذ ؟ أما هو فقد جاءه اليقين ولا نعلم إلا خيراً .))
[الطبراني عن سالم أبى النضر]
(سورة النجم)
لذلك الحمد لله وحده ، أما البشر فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ، كانوا قديماً إذا كلفوا إنساناً ليزكي إنساناً آخر لزواج أو لشهادة يكتب : أعلم منه الصلاح والتقى ، والله أعلم ، معنى والله أعلم قد يكون غير ذلك ، قد يكون منافقاً ، والله أعلم ، فالإنسان ليس مكلفاً ليقيّم الآخرين ، وليس أهلاً لذلك ، ولا يملك الأداة الصحيحة ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( احثوا في وجه المداحين التراب .))
[رواه ابن عياش عن عبد الله بن عمرو]
((إن الله يغضب إذا مدح الفاسق في الأرض .))
[(البيهقي عن أنس رضي الله عنه]
مثلاً رجل يشرب الخمر تقول عنه : أكابر ، أخلاقه عالية ، لبق جداً ، ما معنى قولك لبق جداً ؟ أيُّ لباقة هذه على شرب الخمر ، وعلى ترك الصلاة ؟ فهذا الذي يقوله الناس عن بعض الناس رغم شربهم للخمر ، ورغم تركهم للصلاة ، ورغم أكلهم للربا ، إنّ أخلاقه عالية ، لبق ، هذا كلام باطل :
((إن الله يغضب إذا مدح الفاسق في الأرض .))
[(البيهقي عن أنس رضي الله عنه]
العلماء قالوا : هناك حمد لذات الله ، وهناك حمد له لنعمة سبقت منه ، وهناك حمد له لنعمة ترجوها منه ، وهناك حمد له خوفاً منه ، إذاً الحمد أنواع ، وقد جُمع كل هذا في الفاتحة .
الحمد لله لذاته ، فالإنسان أحياناً تحمده من دون أن يصيبك من خيره شيء ، وقف موقفاً أخلاقياً أمامك من شخص آخر ، هذا الموقف الأخلاقي تحمده عليه ، مع أنك لست معنياً بهذا الموقف ، وقد ينعم عليه فتحمده ، الحمد لله لذاته ، رب العالمين لنعمه ، الرحمن الرحيم لما نطمع من رحمته ، مالك يوم الدين خوفاً منه .
بعضهم قال : ربنا عز وجل بدأ قرآنه الكريم بالحمد لله رب العالمين ، وآخر كلمة يقولها الناس وهم يدخلون الجنة :
(سورة يونس)
أَمَرنا أن ننشئ الحمد كما هو الحال في الفاتحة ، وفي نهاية الحياة كان الحمد واقعاً كما في آية سورة يونس السابقة ، أحياناً يقول لك أحد الناس : اشكرني ، ويعاملك معاملة سوء ، أي شكر هذا ؟ أساء لك المعاملة ، ويطلب منك أن تحمده ، لكن ربنا عز وجل أمرك أن تحمده وبعد أن اتصلت به ، وسعدت بقربه تحمده ، تحمده على نعمه التي وقعت ، إذاً الحمد في بادئ الأمر إنشاء ، وفي نهاية الأمر واقع ثابت .
شيء آخر ، الحمد لله على أنه أوجدنا ، والحمد لله على أنه بث فينا الروح ، والحمد لله على أنه أمدنا بالطعام ، والشراب ، وكل ما نحتاج ، والحمد لله على أنه قومنا ، الأمراض ، والهموم ، والمتاعب ، والأحزان ، هذه كلها ألفاظ خفية من أجل التقويم ، هناك نعمة الإيجاد ، ونعمة الخلق ، ونعمة الإمداد ، ونعمة الرزق ، ونعمة الحياة الروحية ، ونعمة الهدى ، ونعمة التقويم .
نعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، ونعمة الهدى ، ونعمة التقويم أربع نعم كبرى .
هناك شيء آخر ، الحمد لله على ما أعطى ، أن تعرف أن هذه النعمة من الله عز وجل ، أن تعرف من أعطاك ، وأن ترضى بما أعطاك ، وألا تعصي الله فيما أعطاك ، هذا من معاني الحمد ، آخر شيء في الحمد ، مع أن هذه الآية تنقضي الأيام ، ولا ينقضي شرحها ، ولكنّ أخذَ القليل خيرٌ من تركِ الكثير :
(سورة الأنعام)
وقال :
(سورة الكهف)
إنّ نعمة الهدى كما في آية الكهف تعادل نعمة الخلق كما في آية الأنعام ، والحمد لله الذي له ما في السماوات والأرض ولم يكن لغيره ، إن الإنسان لئيم ، فلو كان الأمر والخلق لغيره لمُنع الناس القطر ، ولكن الله سبحانه وتعالى يعلمنا أن نحمده الحمد لله الذي له ما في السماوات والأرض .
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ، قالوا : جمعت هذه الآية نعمة الهدى ، ونعمة الإمداد ، وأكبر نعمة هي أن الله سبحانه وتعالى علمنا كيف نحمده :
((قال موسى : يا رب كيف شكرك ابن آدم ؟ فقال : علم أن ذلك مني فكان ذلك شكره .))
[الحكيم عن الحسن مرسلاً]
نحمد الله بطريقة علمنا إياها الله سبحانه وتعالى ، شعر بعجزنا عن حمده فعلمنا كيف نحمده .
كلمة الحمد لله يقولها الناس في اليوم آلاف المرات ، كيف حالك ؟ يكون ملحداً ويقول : الحمد لله ، وهي من فلتات اللسان عنده ، لكن إذا وقفت على معانيها تماماً تذوب محبة لله على كل شيء ، فإذا كان فهمك عميقاً جداً تحمده على المصيبة :
(( إذا أحب الله عبده ابتلاه ، فإن صبر اجتباه ، فإن رضي اصطفاه .))
[ورد في الأثر]
تعاني من مصيبة مزعجة ، ولعلمك برحمة الله ، وحكمته ، ولطفه ، وحرصه على هدايتك ، وحرصه على إسعادك ، ففي أثناء المصيبة تقول : الحمد لله رب العالمين على هذه المصيبة ، إنها عناية من الله ، وأحياناً يقسو المعلم على تلميذه كي يكون الأول في الصف ، فإذا صار الأول يحمده على قسوته لا على جوائزه ، نعم بحمده على قسوته ، كذلك إذا عرفت الله حق المعرفة تحمده على المصائب ، قال سيدنا علي كرم الله وجهه : " الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين " .
أعلى درجة في اليقين برحمة الله أن ترضى بمكروه القضاء ، القضاء الذي لا تحبه ، الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين ، والحمد لله تعني معرفة الله ، علامة أنك تعرفه ، وأنك تحمده ، تعرفه فتحمده ، أما إذا كنت لا تعرفه فلا تحمده .
والحمد لله رب العالمين
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أيها الأخوة المؤمنون ، نحن بدأنا تفسير كتاب الله من سورة لقمان ، ولم نختم بعدُ كتاب الله سبحانه وتعالى ، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يمدنا جميعاً بقوة منه ، كي نتابع فهْمَ كتاب الله وتطبيقه والأخذَ به .
سوف نفسِّر إن شاء الله تعالى سورةَ الفاتحة ، لأن هذه السورة عظيمة القدرِ ، وكما قال عليه الصلاة والسلام :
(( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )) .
[ مسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ]
سماها النبي عليه الصلاة والسلام أساس القرآن ، وسماها أم القرآن ، وسماها فاتحة الكتاب ، ولها عشرة أسماء ، وقد جُمع القرآنُ في الفاتحة ، لهذه الأسباب كلِّها رأيت من المناسب أن أفسر سورةَ الفاتحةِ بعد السورِ القصيرة الأخيرة التي خُتم بها القرآن الكريم.
أولاً يقول ربنا سبحانه وتعالى :
(سورة النحل)
أجمع العلماء أن كلمة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ليست آية ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام ما كان يقرأ القرآن الكريم إلا ويتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، امتثالاً لقوله تعالى :
(سورة النحل)
العلماء قالوا مندوب أن نقرأها في غير الصلاة وواجب أن نقرأها في الصلاة ، فيجب أن نتعوذ بالله من الشيطان الرجيم في الصلاة ولكن سراً ، تقول : سبحانك اللهم وبحمدك ، تبارك اسمك ، وتعالى جَدُّك ، ولا إله غيرك ، سراً ، ثم تتعوذ بالله من الشيطان الرجيم سراً .
أما البسملة فالأكثرُ على أنها تُقرأ جهراً ، وأبو حنيفة رضي الله عنه يرى أن تُقرأ أيضاً سراً ، ومذهبُه رضي الله عنه يبدأ القراءة بقوله : الحمد لله رب العالمين ، لكن الأكثرَ على قراءة البسملة جهراً ، أما التعوذ فيجمعون على أنه يُقرأ سراً وهذا في الصلاة .
(( اسْتَبَّ رَجُلانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ ، وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ مُغْضَباً ، قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ لَوْ قَالَ : أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ )) .
[البخاري عن سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ]
إذا سافر عليه الصلاة والسلام وأدركه الليل ونزل في أرض فإنه كان يقول :
(( يا أرض ، ربي وربك الله ، أعوذ بالله من شرك ومن شر ما فيك وشر ما خلق فيك ، وشر ما يدب عليك ، أعوذ بالله من أسد وأسود ، ومن الحية والعقرب ، ومن شر ساكن البلد ، ووالد وما ولد )).
[رواه أبو داود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ]
النبي عليه الصلاة والسلام كان دائماً يتعوذ بالله ولاسيما في السورتين الأخيرتين :
(سورة الفلق)
وأيضاً :
(سورة الناس)
قال بعضهم : العوذ هو الالتجاء لقوي كي تتقي به الشر ، وأما اللوذ بمعنى لاذ به ، الاحتماءُ بقويٍّ من أجل أن يجلب لك الخير ، عاذ به ، ولاذ به ، عاذ اتقاء للشر ، ولاذ طلب الخير ، فربنا سبحانه وتعالى يأمرنا أن نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ، وأما كلمة الله فهي اسم الله الأعظم الجامع للأسماء الحسنى كلها ، وهو عَلَمٌ على الذات ، وأكبر أسماء الله اسم الله الأعظم ، يجمع كل أسمائه ، أعوذ بالله ، يعني أعوذ بالله الرحيم ، أعوذ بالله الحكيم ، أعوذ بالله اللطيف ، أعوذ بالله القوي ، أعوذ بالله الغني ، أعوذ بالله العادل ، أعوذ بالله الفرد ، الصمد ، الواحد ، الأحد ، القهار ، الجبار ، أعوذ بالله الودود ، إذا قلت : الله ، فإن الأسماء الحسنى كلها جمعت في كلمة الله ، لو قال قائل : أعوذ بالرحيم ، والأمر محتاج إلى قوة ، فهذه الاستعاذة لا تصح ، أما أعوذ بالله إن كنت تخاف شيئاً قوياً فَعُذْ بالله فهو القوي ، وإن كنت بحاجة إلى رحمة فعذ بالله فهو الرحيم ، وإن كنت بحاجة إلى إمداد فعذ بالله فهو رب العالمين ، وإن كنت بحاجة إلى لطف فعذ بالله فهو اللطيف الخبير ، وإن كنت بحاجة إلى علم فعذ بالله فهو العليم الخبير ، فكلمة أعوذ بالله يعني أنا ألتجئ إلى الذات الكاملة التي جمعت الأسماء الحسنى كلها ، قال تعالى :
(سورة الأعراف)
لِمَ سُمِّي الشيطان شيطاناً ؟ لأنه شَطَنَ ، بمعنى ابتعد وخرج عن طريق الحق ، والله سبحانه وتعالى حينما خلقنا رسم لنا منهجاً ، قال تعالى :
(سورة البقرة)
وقال :
(سورة طه)
وقال :
(سورة فصلت)
ما دمت على المنهج الإلهي فلا تخف ولا تحزن ، قال تعالى :
(سورة المائدة)
إذا اتبعت رضوان الله سبحانه وتعالى يهديك بمنهجه إلى سبلِ السلام ، سلام في بيتك ، سلام في صحتك ، سلام في أولادك ، سلام في تجارتك ، سلام في عملك ، سلام في ماضيك ، سلام في حاضرك ، سلام في مستقبلك ، سلام في خريف عمرك :
(سورة المائدة)
عندما يطبق الإنسان المنهج الإلهي يَسْلَم ، وللإيضاح أضرب مثلاً بآلة ثمينة جداً ، معها تعليمات دقيقة جداً من خبراء الشركة ، إذا اتبعتَ التعليمات فإن هذه الآلة تخدمك إلى أمد طويلٍ طويل ، وإذا خالفتَ التعليمات فسوف تصاب بالعطب ، وتخسرها ، وتخسر ثمنها ، إذاً مَن هو الشيطان ؟ ذلك المخلوق الذي خرج عن المنهج القويم ، الذي رسمه الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين ، لذلك قال الله تعالى :
(سورة الإسراء)
من منا لا يحب أن يعيش حياةً سعيدة فيها سلام ، وفيها رضا ، فيها طمأنينة ، وفيها ثقة بالله ، من منا لا يحب أن ينجو من الخوف ، وأن ينجو من القلق ، أن ينجو من القهر ، وأن ينجو من الألم :
(سورة المائدة)
إذاً الشيطان ذلك المخلوق الذي خرج عن المنهج الإلهي ، وكل مخلوق خرج عن المنهج الإلهي فهو شيطان ، هناك شياطين الإنس ، وهناك شياطين الجن ، قال تعالى :
(سورة القصص)
يعني خرج عن طريقتهم الصحيحة ، قال تعالى :
(سورة طه)
الطغيان خروج عن طريق الحق ، والبغي خروج عن طريق الحق ، والشطن خروج عن طريق الحق ، والفسق خروج عن طريق الحق ، قال الله سبحانه وتعالى :
(سورة الأنعام)
وقال :
(سورة الكهف)
يُحمد الله مرتين ؛ مرةً على خلق السماوات والأرض ، ومرة على هذا المنهج القويم الذي أنزله على أنبيائه .
ملخص الكلام أن لله في الأرض منهجاً ، وأن لله في الأرض قرآناً ، وشرَعَ لنا شرعاً ، فما دمت ضمن الشرع فأنت في سلام ، في حياتك الدنيا ، ويوم تقوم الساعة ، ويوم تقوم القيامة ، وأنت في جنات عدن خالداً فيها إلى أبد الآبدين ، مادمت وفق هذا المنهج ، فإذا خرجت عنه تدفع الثمن ، ما دمت في طاعة الله فأنت في ظل الله وذمته ، فإذا خرجت عن طاعته خرجت من حيّز ظله ، تحمَّل المتاعب حينئذٍ ، جاء أعرابي النبي عليه الصلاة والسلام فقال : يا رسول الله عظني وأوجز ، قال : قل آمنت بالله ثم استقم ، قال : أريد أخفَّ من ذلك ، قال إذاً فاستعد للبلاء .
قضية واضحة كالشمس ، إما أن تطبق التعليمات ، وإما أن تستعد للبلاء ، قل أعوذ بالله من الشيطان ، هذا المخلوق الذي طغى ، والذي غوى ، والذي بغى ، والذي شطن بمعنى ابتعد ، وبعضهم قال : الشيطان من شاط ، بمعنى احترق ، احترق بنار البُعد ، شقي بالبعد ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :
((.. فالناس رجلان رجل بَرَّ تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله ..))
[الترمذي والبيهقي عن ابن عمر]
أي لو أن في الأرض إنساناً واحداً بعيداً عن الله ، وهو يعيش سعيداً رغْمَ بُعْده عن الله لكان هذا الدين باطلاً ، ولو أن إنساناً واحداً كان متصلاً بالله ، وهو شقي في حياته رغمَ طاعته وتقواه لكان هذا الدين باطلاً ، قال تعالى :
(سورة طه)
وقال :
(سورة النحل)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، الرجيم أي البعيد ، والأصح من كلمة البعيد المُبعَد لأنه خرج عن طريق الحق ، وشطن ابتعد فاحترق فأبعد ، قال تعالى : الشيطان يعدكم الفقر ، الشيطان يخوفكم ، الشيطان يأمركم بالفحشاء من طريق الأمر بالفحشاء ، يغريك بالمعاصي ، يزين لك المعاصي ، يعدك بالفقر ، يوسوس لك إذا أنفقت مالك تبقى فقيراً ، ثماني آيات في كتاب الله تَعِدُ الذين ينفقون أموالهم بالتعويض الجزيل قال تعالى :
(سورة البقرة)
وقال :
(سورة سبأ)
وقال :
(سورة النساء)
إذاً :
[سورة النحل]
إذا قرأته خارج الصلاة فهذا مندوب ، أما إذا قرأته في الصلاة فهذا واجب ، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يعوذ بالله من كل شيء ، من دار يدخلها ، ومن دابة يركبها ، كان إذا ركب دابة يقول :
(( أعوذ بالله ، اللهم إني أسألك خير هذه الدابة ، وخير ما خُلقت له ، وأعوذ بك من شرها ، وشر ما خلقت له .))
[ورد في الأثر]
الاستعاذة بالله من دابة ، من بيت ، من عمل لا يرضي الله عز وجل ، من رفقاء السوء ، من نزهة قد تكون فيها النهاية الوبيلة .
الإنسان المؤمن من علامة إيمانه أنه دائماً يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم أنْ يضله ، أو أن يغريه ، أو أن يفسده ، أو أن يفتنه ، أو أن يحمله على معصية ، أو أن يوسوس له ، أو أن يبعده عن أهل الحق ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .
أما كلمة ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ فلها حديث طويل ، يقول الله سبحانه وتعالى في سورة النمل :
(سورة النمل)
النبي عليه الصلاة والسلام من سنته المطهرة أنه كان يبدأ كل أفعاله ببسم الله الرحمن الرحيم ، ونحن نرى على مقدمة الكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، وفي أكثر المجالات بسم الله الرحمن الرحيم ، وأصبحت تقليداً ، قد يكون الكتاب يتحدث عن نظرية داروين ، ويبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم ، البسملة خلاف المضمون .
الموضوع في ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ ، أن هذه الباء حرف جر ، أي أبدأ بسم الله ، وأسماء الله كلها حسنى ، الرحمن الرحيم ، كأن الكلام ناقص ، هناك فعل يتعلق بهذه الباء ، يعني أبدأ عملي بسم الله ، آكل بسم الله ، أؤلف هذا الكتاب بسم الله ، أصدر هذا الحكم كقاضي بسم الله ، فما معنى بسم الله ؟
إذا أردت أن تأكل ، وقلت : ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ ، هناك معنيان لهذه البسملة :
1ـ المعنى الأول أن طعامك وشرابك وغير ذلك إنما هو من نعمِ الله عز وجل :
أن هذا الطعام الذي تأكله إنما هو من نعمِ الله عز وجل ، فكل هذا الطعام باسم الرزاق ، كل هذا الطعام باسم المغني ، بسم المقيت ، بسم المجيد ، بسم الواهب ، بسم اللطيف ، بسم الله ، الله كما قلت قبل قليل : اسم جامع لأسماء الله الحسنى ، فإذا قلت : باسم الله فالبسملة بحسب الموضوع الذي أنت بصدده ، فإذا أكلت ، وقلت : بسم الله الرحمن الرحيم ، يعني أنك آمنت بأن هذا الذي تأكله من صنع الله فهل فكرت في ذلك ؟ وأن الله سبحانه هو الرزاق ، قال تعالى :
(سورة يس)
إذا شربت كأس ماء وقلت بسم الله الرحمن الرحيم ، هل فكرت في أن هذا الماء أصله شمس سُلطت على بحار شاسعة ، فتبخر ماؤها ، وتقطر ، وأصبح بخاراً عالقاً في الجو ، واجتمع سحباً ساقته الرياح إلى أرض عطشى ، أنزله الله بفضله وبقدرته ماءً ثجاجاً أنبت به الزرع والزيتون ، أودعه في الجبال ، فجره ينابيع ، أساله أنهاراً ، فالشمس ساهمت في هذا الكأس ، والمجرات ، والأنواء ، والمناخ ، والرياح ، والحرارة ، والبرودة، والجبال ، فإذا قلت : ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ أي هل فكرت بسم الرزاق ، باسم المعطي ، باسم الواهب ، باسم الغني ، ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ ، يعني أشرب الكأس بسم الله الرحمن الرحيم .
2ـ المعنى الثاني أن لله في خلقه سنةً :
أن لله في خلقه سنةً ، في شرب الماء إذا قلت : ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ فلا ينبغي أن تشرب الماء خلاف السنة ، أن تشربه مصاً ، ولا تعبه عباً ، أن تشربه على ثلاث مراحل ، أن تشربه وتحمد الله عز وجل ، أن تبعد الإناء عن فيك ، ألا تتنفس في الإناء ، هذه سنة النبي المطهرة ، نهانا عن التنفس في الإناء .
الآن ثبت أن هناك أمراضاً تنتقل عدواها عن طريق الزفير الذي يختلط بالماء المشروب ، فقال عليه الصلاة والسلام :
(( أَبِنْ القدح عن فيك .))
[رواه البيهقي وسمويه عن أبي سعيد الخدري]
بين الشربتين أَبِنْ القدح عن فيك ، لئلا يختلط النَفَس بالماء ، وكان عليه الصلاة والسلام قد قال :
(( مصوا الماء مصاً ولا تعبوه عباً ، فإن الكباد من العب .))
[رواه ابن السني والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها]
مرض الكبد يأتي من عب الماء ، وكان عليه الصلاة والسلام إذا شرب حمد الله وكل هذا من سنته المطهرة ، إذا قلت : ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ لها معنيان ، الأول : هل فكرت في هذه النعم ؟ والثاني : هل أنت مطبق سنة رسول الله في شرب الماء ؟ هذا في الشرب .
في الطعام ، قال تعالى :
(سورة الأعراف)
كلوا واشكروا له :
(( الحمد لله الذي أطعمني فأشبعني ، وسقاني فأرواني .))
[أبو يعلى عن عبد الله بن قيس]
(( إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها .))
[رواه مسلم عن أنس رضي الله عنه]
ليرضى عن العبد ، يعني إذا أكل الإنسان وشبع فليقل : الحمد لله ، فإذا قلت : بسم الله فهذه التسمية تعني أنْ فَكِّر في هذه النعم ، وأنها من رزق الله تعالى ، وطبق أمر الله في الطعام ، وإذا دخلت البيت وقلت : ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ ، قال الله عز وجل :
(سورة النساء)
إذاً بيوتكم أولى بالسلام على مَن فيها ، والنبي صلى الله عليه وسلم قال فيما معناه : إن الرجل إذا دخل بيته ولم يسلم على أهله قال الشيطان وجدنا المبيت ، فيبيت الشيطان في المنزل ، ويعيث فيه فساداً ما شاء له أن يعبث تلك الليلة ، إذاً إن هذا أمر الله ، وهو أن تسلم إذا دخلت المنزل ، وإذا قلت : بسم الله ، وفتحت باب المنزل ، فلتقل أيضاً : الحمد لله الذي آواني ، فكم من الناس من لا مأوى له ، هل شعرت أن هذه نعمة ، نعمة المأوى كبيرة جداً ؟ كم ممن لا مأوى له ، في أكثر دول شرقي آسيا ينام الناس على الأرصفة ، يتخذون بيوتاً قوارب في الأنهار ، في بعض الدول الفقيرة تشاهد الآلاف ينامون هم وزوجاتهم وأولادهم على الرصيف ، وصار ذلك منظراً مألوفاً جداً في بلادهم ، فإذا كنت في بيت وفتحت باب البيت وقلت : ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ ، فمعنى ذلك : الحمد لله الذي آواني ، وتذّكرت كم من الناس مَن لا مأوى له .
هل رأيت نعم الله عز وجل ؟ إذا فتحت الماء لتتوضأ ، وقلت : بسم الله الرحمن الرحيم ، هل عرفت أن هذه نعمة لا تُقدر بثمن ، نعمة الماء داخل المنزل ، الآن إذا دخلت إلى البيت وقلت : بسم الله الرحمن الرحيم ، يعني :
(سورة النساء)
(( أكرموا النساء فو الله ما أكرمهن إلا كريم ، ولا أهانهن إلا لئيم ، يغلبن كل كريم ، ويغلبهن لئيم ، وأنا أحب أن أكون كريماً مغلوباً من أن أكون لئيماً غالباً .))
[ورد في الأثر]
يعني البسملة ، إذا قدت سيارتك وقلت : بسم الله الرحمن الرحيم ، فليبادر ذهنك إلى أين أنت ذاهب ؟ هل أنت ذاهب إلى مكان لا يرضي الله عز جل ، فيتناقض ذلك بين البسملة وبين هذا المكان ، فتنثني عن ذهابك عندئذٍ وتعود إلى صوابك .
هل تشكر الله على نعمة المركب ؟ هل تسخرها لعباد الله ؟ هل تعين بها الضعيف ؟ هل تنقذ بها المريض ؟ القضية واسعة جداً ، النبي عليه الصلاة والسلام ، قال :
((كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر .))
[أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة]
يعني : مقطوع الخير ، ألَّفت كتاباً ، هل تذكر في الكتاب شيئاً باطلاً ، فإذا كتبت في صدر صفحاته بسم الله ، فإنك تدقق : هل هدفك من هذا التأليف خالص لوجه الله أم تبتغي به السمعة والرفعة ، بسم الله تجعلك على بصيرة من الأمر .
هذه البسملة تضعك أمام شيئين ، تذكرك بنعم الله عز وجل ، وأن هذا من نعمة الله ، وتذكرك بأمر الله في هذا الموضوع ، في الطعام ، في الشراب ، في دخول المنزل ، في الخروج إلى السوق ، وكان النبي الكريم يعوذ بالله من صفقة خاسرة إذا دخل السوق ، ويمينٍ فاجرة ، يقول لك البائع : الله وكيلك بعتُك برأسمالها ، وهو يكذب ، لقد باع دِينَه كله بكلمة واحدة ، النبي كان يعوذ بالله من يمين فاجرة ، ومن صفقة خاسرة ، فإذا جمع الإنسان مالاً من حرام فإنّ الله عز وجل يريه أن هذه الصفقة فيها ربح وفير فيشتريها ، ويكون إفلاسه عن طريقها ، هذا الذي جمعه من حرام أذهبه الله في صفقة خاسرة ، فإذا دخل الإنسان إلى السوق فهناك بسملة ، إذا دخل بيته فهناك بسملة ، إذا ركب في مركبة فهناك بسملة ، إذا شرب الماء ، إذا تناول الطعام ، حتى إذا التقى مع أهله فهناك بسملة ، لئلا تأتيك ذرية سيئة ، بسم الله ، فهذه الباء تعني التجئ وألوذ بسم الله ، آكل بسم الله ، أتزوج بسم الله ، أدخل إلى بيتي بسم الله ، دائماً هذه البسملة تذكرك بأسماء الله الحسنى ، وتذكرك بأوامره المثلى ، ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ .
وبعد فالحقيقة إن العلماء حاروا في الفرق بين الرحمن والرحيم .
قال بعضهم : الرحمن بخلقه جميعاً ، والرحيم بالمؤمنين .
وقال بعضهم : الرحمن بجلائل النعم ، والرحيم بدقائقها .
وقال بعضهم : الرحمن في الأولى ، والرحيم في الآخرة .
وقال بعضهم : الرحمن في ذاته ، والرحيم في أفعاله .
وهذا الأخير من أوجه التفسيرات ، لأنك قد تلتقي بطبيب يرى مريضاً فيسرع إلى إنقاذه أمام ملأ من الناس ، فإنقاذُ هذا المريض يكسب الطبيبَ سمعةً طيبة ، فنقول : هذا الطبيب رحيم ، لكن الطبيب لا ينطوي على رحمة في قلبه ، بل فعَلَ هذا ابتغاء السمعة ، فهو رحيم ، لكنه لم ينطلق في عمله من رحمة في قلبه .
هناك فرق بين الرحمن والرحيم ، الرحمن في ذاته ، والرحيم في أفعاله ، ذاته رحيمة ، وأفعاله رحيمة ، الرحمن الرحيم ، والرحمة شيء يبعث الراحةَ في النفس ، فالمطر من رحمته ، تهطل الأمطار فتمتلئ الينابيع ، وينبت النبات ، وتثمر الأشجار ، ونأكل ، وترخص الأسعار ، فهذا من رحمته ، والأبناء من رحمته ، يبدلون سكون البيت حركة وحياة ، ويبعثون الأنس في البيت ، وإذا كبر الابن يعين والديه ، فالابن رحمة من الله ، قال تعالى :
(سورة الأنعام )
وهبنا له ، فالرحمة كل شيء يرتاح له الإنسان ، فأن تعمل هذه الأجهزة عملاً منتظماً فهو من رحمة الله ، وأن تأكل طعاماً لذيذاً فهو من رحمة الله ، وأن تشرب ماءً عذباً فراتاً فهو من رحمة الله ، وأن تسكن إلى زوجة ، تطيعك إذا أمرتها ، وتسرك إذا نظرت إليها ، وتحفظك إذا غبت عنها ، فهو من رحمة الله ، وأن ترى طفلاً كالملاك يتحرك في البيت ، فهو من رحمة الله ، وإن كان لك عملٌ يدرُّ عليك دخلاً فهو من رحمة الله ، وإذا ذهبت إلى بستان فمتعت النظر بجماله فهو من رحمة الله ، وإذا هبت نسمات لطيفة عَطَّلت عمل المكيفات ، وأوقفته فهو من رحمة الله ، وإذا كان الدفء فهو من رحمة الله ، فالرحمة الشيء الذي يرتاح له الإنسان ، فالله سبحانه وتعالى خلقنا ليرحمنا قال تعالى :
(سورة هود)
ليرحمنا في الدنيا ، ويرحمنا في الآخرة ، أما أن يقول الإنسان : سبحان الله ، خلقنا الله ليعذبنا ، هذا كلام الشيطان ، ما خُلقت يا أخي للعذاب بل خُلقت للرحمة ، كي يسعدك في الدنيا والآخرة .
في الدنيا إذا آمنت بالله يمتعك إلى حين ويؤتي كل ذي فضل فضله ، حتى في الدنيا فيها سعادة ، وفيها سرور لمن أطاع الله عز وجل :
(سورة النساء)
خلقنا ليرحمنا هذا هو الهدف الإلهي الكبير ، ولكن العذاب الذي يعذبنا الله به من صنع أيدينا ، من معاصينا ، من ضلالنا ، من انحرافنا ، من طغياننا ، مِن بُعْدِنا ، ومن تقصيرنا ، حتى الهمُّ يهتم له الإنسان إنه انعكاس لأعماله الزائغة .
بعضهم قال : هذه البسملة ينبغي أن تدور مع الإنسان في كل نواحي حياته ، وفي كل نشاطاته ، إذا قام ليتوضأ ، إذا دخل البيت ، إذا قام ليأكل ، إذا قام ليشرب ، قمت لتأكل فقلت بسم الله الرحمن الرحيم ، النبي أمرنا بالوضوء قبل الطعام ، ووضوء الطعام ليس وضوءاً كاملاً ، غسل اليدين والفم فقط :
(( وبركة الطعام الوضوء قبله ، والوضوء بعده .))
[أبو داود والترمذي عن سلمان]
أجمع العلماء على أن وضوء الطعام غير وضوء الصلاة ، وضوء الطعام غسل اليدين والفم ، كنت في الطريق ، غبار ، صافحت إنساناً ، أمسكت بحذائك ، يعني هذه اليد أمسكت بأشياء كثيرة ، بركة الطعام الوضوء قبله ، فلو قمت إلى الطعام فقلت : بسم الله الرحمن الرحيم ، قف اذهب واغسل يديك وفمك ، هذا معنى ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ .
قال تعالى :
(سورة الفاتحة)
الآن نبدأ بالفاتحة ، الفاتحة سماها النبي عليه الصلاة والسلام الصلاة ، لقوله :
(( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب .))
[متفق عليه عن عبادة بن الصامت]
شيء آخر سُميت الفاتحة بسورة الحمد لأنها مصدرة بالحمد لله رب العالمين ، وسميت فاتحة الكتاب لأن القرآن الكريم افتتح بها ، وسميت أم الكتاب ، وأم الشيء أصله ، ربنا عز وجل قال :
(سورة آل عمران آية 7 )
آيات الفاتحة كلها آيات محكمات ، الفاتحة سماها النبي عليه الصلاة والسلام أم الكتاب ، وسُميت أم القرآن ، فقد قال عليه الصلاة والسلام :
((الحمد لله أم القران وأم الكتاب والسبع المثاني .))
[الترمذي عن أبي هريرة]
سميت الشفاء ، لأنه عليه الصلاة والسلام قال :
(( في فاتحة الكتاب شفاء من كل داء .))
[البيهقي عن عبد الله بن جابر]
سُميت الأساس ، أساس الكتاب القرآن ، يعني أساس الكتب السماوية القرآن ، وأساس القرآن الفاتحة ، وسُميت الوافية ، وسميت الكافية ، فقد قال عليه الصلاة والسلام :
(( أم القرآن عوض عن غيرها ، وليس غيرها عوضاً عنها .))
[الحاكم عن عبادة بن الصامت]
وقد ورد في تفسير القرطبي : " إن جميع القرآن فيها " .
أذكر حديثاً روى عن الحسن البصري ـ رحمه الله ـ أنّ الله أنزل مئة كتاب وأربعة كتب ، جمع سرّها في الأربعة ، وجمع سرّ الأربعة في القرآن ، وجمع سرّ القرآن في الفاتحة ، وجمع سرّ الفاتحة في هاتين الكلمتين : ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ . قال النبي عليه الصلاة والسلام :
(( إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ، أو يشرب الشربة فيحمده عليها .))
[مسلم عن أنس بن مالك]
سأتلو عليكم حديثاً شريفاً يبعث في أنفسكم الطمأنينة هو :
(( الحمدُ على النعمة أمانٌ لزوالها .))
[الديلمي عن عمر]
أية نعمة تحمد الله عليها لن تزول ، ولن تضيع ، وأن تقول الحمد لله على النعمة أمان من زوالها ، وهناك حديث دقيق جداً يقول الحسن : " ما من نعمة إلا والحمد لله أفضل منها ." كيف ؟
يعني إذا أعطاك الله نعمة الصحة ، وكنت شديداً عتيداً قوياً نشيطاً كالحصان ، لا بد من سنوات تمضي وتمضي حتى يأتي الأجل ، ويموت الإنسان فأين هذه النعمة ؟ زالت ، لكنك إذا حمدت الله عليها ، وارتقت نفسك في مدارج الحمد ، وسَمَتْ سعدت بحمدك إلى الأبد ، إذاً الحمد على النعمة أفضل من النعمة نفسها قال الحسن : "ما من نعمة إلا والحمد لله أفضل منها " .
لو أنك وهبت زوجةً صالحة ، فأعانتك على متاعب الحياة ، وحصنتك ، وسكنت إليها ، فلا بد من ساعة تفارقها ، أو تفارقك ، إما أن تفارقها أولاً ، وإما أن تفارقك أولاً ، لكنك إذا حمدت الله على نعمة الزوجة الصالحة فإنّ هذا الحمد تسعد بثوابه إلى أبد الآبدين .
لذلك لقي أحدُهم شريحاً القاضي ، فقال : يا شريح كيف حالك في بيتك ؟ قال : منذ عشرين سنة لم أجد ما ينغص حياتي ، أو يعكر صفائي ، قال : وكيف ذلك ؟ قال : خطبت امرأة من أسرةً صالحة ، فلما خلوت بها ، صليت ركعتين شكراً لله على نعمة الزوجة الصالحة ، فلما سلمت وجدتها تصلي بصلاتي ، وتسلم بسلامي ، وتشكر بشكري ، فلما دنوت منها قالت : على رسلك يا أبا أمية ، إني امرأة غريبة ، لا أعرف ما تحب ، ولا ما تكره ، فقل لي ما تحب حتى آتيه ، وما تكره حتى أجتنبه ، ويا أبا أمية لقد كان لك من نساء قومك من هي كفء لك ، وكان لي من رجال قومي من هو كفء لي ، ولكن كنت لك زوجة على كتاب الله وسنة رسوله ، فاتقِ الله فيّ ، وامتثل قوله تعالى :
(سورة البقرة)
قال : ثم قعدتْ ، يعني هذه الزوجة الصالحة تنتظر ردّ زوجها ، ذكرت هذه القصة للإفادة مما فيها من عِبر ، فالقاضي شريح ، حينما دخل على زوجته الصالحة صلى ركعتين صلاة الشكر ، إذاً الحمد على النعمة آمان من زوالها ، أية نعمة ، نعمة الصحة لن تزول ، يمتعك الله بسمعك ، وبصرك ، وعقلك ، وقوتك ما أحياك ، هل تغض الطرف عن محارم الله هذه العين لن تُفجع بها ، هل تمسك أذنك عن سماع أي صوت لا يرضي الله ، هذه الأذن لن تفجع بها ، هل ينطق لسانك بالحق ، ولا ينطق بالباطل ، هذا اللسان لن تُفجع به ، هذه الذاكرة ، تستخدمها لماذا ؟ بالحق أم بالباطل ؟ إن استخدمتها في حفظ كتاب الله ، وحفظ أحكام الله ، وحفظ الأحاديث الشريفة ، فإن الله سبحانه وتعالى لن يفجعك بها ، وهذه اليد ، وهذه القوة وغير ذلك من النعم ، فالحمد لله على النعمة أمان من زوالها .
قال عليه الصلاة والسلام :
(( ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله إلا كان الذي أعطاه أفضل مما أخذ))
[ابن ماجة عن أنس بن مالك]
العبد ماذا أعطي ؟ هذه الكلمة ، كلمة الحمد لله ، هذه الكلمة التي أعطاها العبد لربه أفضل عند الله مما أخذ ، لو أخذ بيتاً ثمنه خمسة ملايين ، وقال : يا رب لك الحمد ، فكلمة الحمد لله أفضل عند الله من هذا البيت ، لأن هذا البيت مصيره إلى الخراب ، لكن هذا الحمد يسعد به الإنسان إلى الأبد ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :
(( لو أن الدنيا كلها بحذافيرها بيد رجل من أمتي ثم قال الحمد لله لكانت الحمد لله أفضل من ذلك كله .))
[الديلمي وابن عساكر وابن النجار عن أنس]
الدنيا بحذافيرها يعني بيوتها الفخمة ، وبساتينها النضرة ، ومالها الوفير ، ونساءها الجميلات ، ومراكبها الفخمة ، كلمة الحمد لله يعني أنك تعرف الله ، وإذا عرفته عرفت كل شيء وإذا فتّه فاتك كل شيء ، لو أن الدنيا بحذافيرها بيدك وقلت : الحمد لله ، فكلمة الحمد لله أفضل عند الله من الدنيا وما فيها .
لذلك العلماء حاروا أيهما أفضل ، الحمد لله ، أم لا إله إلا الله ؟ هناك أقوال تقول : إن الحمد لله أفضل ، وبعضهم قال : لا إله إلا الله أفضل ، لكن كلمة الحمد لله هي الحمد الأولى في كتاب الله تبارك :
(سورة الفاتحة)
أما الحمد ، لمَ لم يقل الله عز وجل حمداً لله رب العالمين ، بل قال سبحانه : الحمد لله ؟ قالوا : هذه الألف واللام لاستغراق الحمد كله ، يعني الحمد كله بحذافيره كله ، وجزؤه ـ مهما كان حجمه ـ صغيره وكبيره لله عز وجل .
لا يوجد جهة أخرى تستحق الحمد إلا الله ، أبداً ، أصغِ سمعك إلى قول ربنا عز وجل :
(سورة آل عمران)
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أرحم الخلق بالخلق ، لو جمعت رحمة أمهات الأرض منذ آدم إلى يوم القيامة لا تعادل رحمة النبي بأمته ، قال تعالى :
(سورة التوبة)
(( أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في أمر الله عمر ... ))
[أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي عن أنس]
أما أرحم الخلق بالخلق النبي عليه الصلاة والسلام ، يعني أرحم بك من نفسك ، ومع ذلك قال الله عز وجل :
(سورة آل عمران)
قال ربنا عز وجل :
(سورة الكهف)
ما الفرق بين "رحمة" المُنكَرة في آية آل عمران ، و"الرحمة" المُعرَّفة في آية سورة الكهف ؟ قال هذه الرحمة الثانية ، هذه ليست أل التعريف ، إنما للاستغراق ، يعني الرحمة كلها من الله ، والنبي عليه الصلاة والسلام أوتي طرفاً منها .
الآن الحمد كله لله ، ذكرت قصة قبل شهر أو أكثر أن الحَجَّاج أمر بضرب أعناق عشرة رجال ، فأذن المغرب ، وبقي رجل لم تضرب عنقه ، فقال لأحد وزرائه : خذه إلى بيتك وائت به غداً ، هذا الرجل في الطريق قال له : والله لم أخرج على طاعة الأمير ، وما آذيتُ أحداً من المسلمين ، فهل تأذن لي أن أذهب لأهلي فأوصي قبل أن أموت وأرى أولادي ، واكتب وصيتي ، فضحك هذا الوزير وقال : أو مجنون أنا ! فقال : عهداً لله إن أطلقتني لأعودَنَّ إلى بيتك قبل الفجر ، فما زال هذا الرجل يقنعه حتى سمح له ، فلما سمح له شعر بضيق لا يُحتمل ، قال : نمتُ أطول ليلة في حياتي ، لأنه سيموت مكانه غداً ـ مكان الرجل ـ إن لم يرجع ، ما إن أذن الفجر حتى طُرق الباب ، وجاء هذا الرجل الذي عاهده على أن يعود ، جاء ليموت ، فلما كان الغد ذهب به إلى الحجاج فقال له : سأنبئك بما حصل البارحة ، فلما أنبأه قال له الحجاج : أتحب أن أهبه لك ، قال : نعم ، قال: إذاً هو لك ، يعني ما دام عنده هذا الوفاء عَفَوْنا عنه ، فلما خرج قال له : يا هذا اذهب لوجهك ، فهذا الذي عُفي عنه لم يتكلم ، ولم ينظر إليه ، ولم يشكره ، ولم يقل كلمة ، إلا أنه توجه إلى السماء ، وقال : الحمد لله .
هذا الذي سعى بإطلاق سراحه وتخليصه من الموت المحتم تألم ! لو أنه شكرني ، قال : ثم جاءه بعد ثلاثة أيام و قال : أحمدك على عملك ، ولكنك حين قلت لي : اذهب لوجهك كرهت أن أحمد مع الله أحداً .
الإنسان أحياناً يلوح له شبح مصيبة ، كأن يصاب بورم لم يعرف أهو خبيث أم غير خبيث ؟ أجرى تحليلاً ، فإذا هو ورم طبيعي ، أول شيء عليه أن يقول : الحمد لله رب العالمين ، ولا تحمد مع الله أحداً .
هناك التهاب في السحايا على وشك الوفاة مع الابن الأصغر ، فنجا من الموت بتوفيق الله وقدرته ، لا تقل : واللهِ إنّ الطبيب لا يفهم ، قال لي : اجرِ تحليلاً في وقت مبكر قل : الحمد لله رب العالمين ، فلذلك الحمد لله رب العالمين أساس معرفة العبد بربه ، هناك حديث دقيق جداً ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده .))
[عبد الرزاق والبيهقي عن ابن عمرو]
قال بعضهم : الحمد حالة نفسية ، والشكر سلوك ، فليس هناك سلوك شاكر إلا على أساس حالة حمد ، فإذا لم يكن عند الإنسان حالة حمد فسلوكه باطل ، وهو في حالة نفاق ومداهنة :
(( الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده .))
[عبد الرزاق والبيهقي عن ابن عمرو]
الحمد أولاً والشكر ثانياً ، قال تعالى :
(سورة سبأ)
الشكر عمل ، ﴿ اعْمَلُوا آَلَ داود شُكْراً ﴾ ، أما الحمد فهو حالة نفسية ، أحياناً يقدم لك إنسان خدمة تحس أنك ممتن من أعماقك منه ، تعبر عن الامتنان أحياناً بخدمة ، أحياناً بكلمة طيبة ، أحياناً بقولك جزاك الله عني كل خير ، ولكن هذا الكلام أو هذه الخدمة أساسها حالة نفسية شعرت بها هذا هو الحمد .
أنت في الصلاة تصلي الفرض ، الفروض فقط في اليوم سبعة عشر ركعة ، ومثلها سنن ، يعني تقول : الحمد لله في الصلاة حوالي أربعين مرة ، هل أنت في مستوى هذه الآية ؟ يعني راض عن الله عز وجل ، راض عن صحتك ، عن دخلك ، عن ضيقك ، عن عملك ، راضٍ وأنت من أصحاب الدخل المحدود ، أم ترى نفسك دائماً أنك محروم ، إذا كان دخل الرجل محدوداً مثلاً يقضي عمره كله غير راضٍ ، بينما يجد بائع فلافل دخله خمسة آلاف وهو أميّ ، يقول صاحب الدخل المحدود : أنا حائز على شهادة ليسانس ، ودخلي فقط ألف ومائتان بالشهر تقريباً ، فهو دائماً غير راضٍ ، أما إذا كان مؤمناً وقال : الحمد لله رب العالمين ، فليس عنده حرمان أبداً ، إن نعمة الرضا أكمل نعمة ، لو جاءك مئة مليون في الشهر وأنت على ضلال فالنهاية إلى جهنم ، أما المؤمن فكلمة الحمد لله رب العالمين تدل على أنه راضٍ عن الله عز وجل : يا رب هل أنت راضٍ عني ؟ قال : يا عبدي هل أنت راض عني حتى أرضى عنك .
هل أنت راض عن الله عز وجل ؟ هل تقول الحمد لله من أعماقك ، من أعماق أعماقك ؟ أراضٍ ، وليس عندك إلا بنات فقط ، وليس عندك ولا ذكر واحد ، فهل أنت راضٍ ؟ هل رأيت حكمة الله عز وجل أنه يحبك على هذا ، ليس عندك أولاد إطلاقاً ، بل عقيم راض عن الله عز وجل ، عندك زوجة سيئة الخلق ، فهل أنت راض بها ؟ هل ترى أن الله شاءت حكمته أن تكون كذلك ؟ لك عمل محدود دخله ، أنت في مرض عضال مزمن بشكل مستمر تعاني من بعض الأمراض هل تقول الحمد لله رب العالمين ؟ هذه البطولة .
ليس من يقطع طرقاً بطلاً إنما من يتق الله البطل
***
الحمد لله في السراء والضراء ، في الغنى والفقر ، في القوة والضعف ، في إقبال الدنيا وإدبارها ، في الرفعة والضعة ، في العز والذل ، الحمد لله على كل حال ، الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه ، المكروه نعمة ، لكنه نعمة باطنة .
الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نحمده ، وأمرنا ألا نحمد أحداً معه كيف ؟ قال تعالى :
(سورة النجم)
مثلاً نراك تحاضر محاضراتٍ كثيرة عن زيد وعبيد ، وقد تكون مجانباً الحق في كثير مما تحاضر ، إذاً فإنه لا يستحق الحمد إلا الله ، وإذا سئلت تقول : الله أعلم بحاله ذلك علمي به ، وعن الصديق تقول : ذلك علمي به ، فإن بدل وغير فلا أعلم الغيب ، لم اختار سيدنا أبو بكر سيدنا عمر ؟ ألم يقل : لا أعلم من هو خير منه ؟ وقال : ذلك علمي به فإن بدل وغيّر فلا أعلم الغيب ، الله قال :
(سورة النجم)
هنيئاً لك أبا السائب لقد أكرمك الله ، كان النبي عليه الصلاة والسلام عند صحابي متوفى ، كشف عن وجهه فقبله ، سمع امرأة تقول :
(( هنيئاً لك أبا السائب الجنة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وما يدريك يا أم معاذ ؟ أما هو فقد جاءه اليقين ولا نعلم إلا خيراً .))
[الطبراني عن سالم أبى النضر]
(سورة النجم)
لذلك الحمد لله وحده ، أما البشر فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ، كانوا قديماً إذا كلفوا إنساناً ليزكي إنساناً آخر لزواج أو لشهادة يكتب : أعلم منه الصلاح والتقى ، والله أعلم ، معنى والله أعلم قد يكون غير ذلك ، قد يكون منافقاً ، والله أعلم ، فالإنسان ليس مكلفاً ليقيّم الآخرين ، وليس أهلاً لذلك ، ولا يملك الأداة الصحيحة ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( احثوا في وجه المداحين التراب .))
[رواه ابن عياش عن عبد الله بن عمرو]
((إن الله يغضب إذا مدح الفاسق في الأرض .))
[(البيهقي عن أنس رضي الله عنه]
مثلاً رجل يشرب الخمر تقول عنه : أكابر ، أخلاقه عالية ، لبق جداً ، ما معنى قولك لبق جداً ؟ أيُّ لباقة هذه على شرب الخمر ، وعلى ترك الصلاة ؟ فهذا الذي يقوله الناس عن بعض الناس رغم شربهم للخمر ، ورغم تركهم للصلاة ، ورغم أكلهم للربا ، إنّ أخلاقه عالية ، لبق ، هذا كلام باطل :
((إن الله يغضب إذا مدح الفاسق في الأرض .))
[(البيهقي عن أنس رضي الله عنه]
العلماء قالوا : هناك حمد لذات الله ، وهناك حمد له لنعمة سبقت منه ، وهناك حمد له لنعمة ترجوها منه ، وهناك حمد له خوفاً منه ، إذاً الحمد أنواع ، وقد جُمع كل هذا في الفاتحة .
الحمد لله لذاته ، فالإنسان أحياناً تحمده من دون أن يصيبك من خيره شيء ، وقف موقفاً أخلاقياً أمامك من شخص آخر ، هذا الموقف الأخلاقي تحمده عليه ، مع أنك لست معنياً بهذا الموقف ، وقد ينعم عليه فتحمده ، الحمد لله لذاته ، رب العالمين لنعمه ، الرحمن الرحيم لما نطمع من رحمته ، مالك يوم الدين خوفاً منه .
بعضهم قال : ربنا عز وجل بدأ قرآنه الكريم بالحمد لله رب العالمين ، وآخر كلمة يقولها الناس وهم يدخلون الجنة :
(سورة يونس)
أَمَرنا أن ننشئ الحمد كما هو الحال في الفاتحة ، وفي نهاية الحياة كان الحمد واقعاً كما في آية سورة يونس السابقة ، أحياناً يقول لك أحد الناس : اشكرني ، ويعاملك معاملة سوء ، أي شكر هذا ؟ أساء لك المعاملة ، ويطلب منك أن تحمده ، لكن ربنا عز وجل أمرك أن تحمده وبعد أن اتصلت به ، وسعدت بقربه تحمده ، تحمده على نعمه التي وقعت ، إذاً الحمد في بادئ الأمر إنشاء ، وفي نهاية الأمر واقع ثابت .
شيء آخر ، الحمد لله على أنه أوجدنا ، والحمد لله على أنه بث فينا الروح ، والحمد لله على أنه أمدنا بالطعام ، والشراب ، وكل ما نحتاج ، والحمد لله على أنه قومنا ، الأمراض ، والهموم ، والمتاعب ، والأحزان ، هذه كلها ألفاظ خفية من أجل التقويم ، هناك نعمة الإيجاد ، ونعمة الخلق ، ونعمة الإمداد ، ونعمة الرزق ، ونعمة الحياة الروحية ، ونعمة الهدى ، ونعمة التقويم .
نعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، ونعمة الهدى ، ونعمة التقويم أربع نعم كبرى .
هناك شيء آخر ، الحمد لله على ما أعطى ، أن تعرف أن هذه النعمة من الله عز وجل ، أن تعرف من أعطاك ، وأن ترضى بما أعطاك ، وألا تعصي الله فيما أعطاك ، هذا من معاني الحمد ، آخر شيء في الحمد ، مع أن هذه الآية تنقضي الأيام ، ولا ينقضي شرحها ، ولكنّ أخذَ القليل خيرٌ من تركِ الكثير :
(سورة الأنعام)
وقال :
(سورة الكهف)
إنّ نعمة الهدى كما في آية الكهف تعادل نعمة الخلق كما في آية الأنعام ، والحمد لله الذي له ما في السماوات والأرض ولم يكن لغيره ، إن الإنسان لئيم ، فلو كان الأمر والخلق لغيره لمُنع الناس القطر ، ولكن الله سبحانه وتعالى يعلمنا أن نحمده الحمد لله الذي له ما في السماوات والأرض .
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ، قالوا : جمعت هذه الآية نعمة الهدى ، ونعمة الإمداد ، وأكبر نعمة هي أن الله سبحانه وتعالى علمنا كيف نحمده :
((قال موسى : يا رب كيف شكرك ابن آدم ؟ فقال : علم أن ذلك مني فكان ذلك شكره .))
[الحكيم عن الحسن مرسلاً]
نحمد الله بطريقة علمنا إياها الله سبحانه وتعالى ، شعر بعجزنا عن حمده فعلمنا كيف نحمده .
كلمة الحمد لله يقولها الناس في اليوم آلاف المرات ، كيف حالك ؟ يكون ملحداً ويقول : الحمد لله ، وهي من فلتات اللسان عنده ، لكن إذا وقفت على معانيها تماماً تذوب محبة لله على كل شيء ، فإذا كان فهمك عميقاً جداً تحمده على المصيبة :
(( إذا أحب الله عبده ابتلاه ، فإن صبر اجتباه ، فإن رضي اصطفاه .))
[ورد في الأثر]
تعاني من مصيبة مزعجة ، ولعلمك برحمة الله ، وحكمته ، ولطفه ، وحرصه على هدايتك ، وحرصه على إسعادك ، ففي أثناء المصيبة تقول : الحمد لله رب العالمين على هذه المصيبة ، إنها عناية من الله ، وأحياناً يقسو المعلم على تلميذه كي يكون الأول في الصف ، فإذا صار الأول يحمده على قسوته لا على جوائزه ، نعم بحمده على قسوته ، كذلك إذا عرفت الله حق المعرفة تحمده على المصائب ، قال سيدنا علي كرم الله وجهه : " الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين " .
أعلى درجة في اليقين برحمة الله أن ترضى بمكروه القضاء ، القضاء الذي لا تحبه ، الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين ، والحمد لله تعني معرفة الله ، علامة أنك تعرفه ، وأنك تحمده ، تعرفه فتحمده ، أما إذا كنت لا تعرفه فلا تحمده .
والحمد لله رب العالمين
abd- عضو
- عدد المساهمات : 95
نقاط : 284
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 18/05/2010
العمر : 34
مواضيع مماثلة
» سورة الفاتحة "1" : الدرس 2 ـ الآيات : [3 ـ 7]
» تفسير سورة النبأ
» سورة أل عمران . الرحمة - الآية 159- .
» سورة البقرة (2) . المصيبة - الآيات 155-156-157
» سورة البقرة (2) . المصيبة - الآيات 155-156-157
» تفسير سورة النبأ
» سورة أل عمران . الرحمة - الآية 159- .
» سورة البقرة (2) . المصيبة - الآيات 155-156-157
» سورة البقرة (2) . المصيبة - الآيات 155-156-157
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى