باب فضل قراءة القرآن
صفحة 1 من اصل 1
باب فضل قراءة القرآن
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ... لازلنا في كتاب رياض الصالحين ، واليوم في الباب الذي عنوانه ( فضل قراءة القرآن ) .
قَالَ عُمَرُ : إِنَّ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ : ((إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ)) .
(مسلم)
معنى ذلك كما قلت في الدرس الماضي ، يوم الجمعة ، أن هناك مصادر عدَّة للمعرفة ؛ منها الكون ، ومنها الحوادث ، لكن القرآن معرفةٌ شاملة ، القرآن بيانٌ إلهي ؛ فيه آياتٌ كونية ، وفيه مشاهد ليوم القيامة ، وفيه وعدٌ ووعيد ، وفيه تبشيرٌ وإنذار ، وفيه حِكَم ، وفيه قصص ، وفيه أمثال ، وفيه أخبار ، وفيه مُغَيَّبات ، وفيه أحكام ، إذاً بيان إلهي ، الله عزَّ وجل قال :
( سورة المائدة : من آية " 3 " )
الذي يكملك أيها الإنسان هو كلام الله عزَّ وجل ، أنت مخلوق في أعلى درجات التعقيد ؛ نوازع ، دوافع ، شهوات ، ميول ، إدراك ، طموحات ، فطرة ، صبغة ، كائن من أعقد الكائنات ، لا تعقيد عجز بل تعقيد إبداع ، قد تجد طاولة في بيتك ، هذه الطاولة غير معقدة لوحٌ من الخشب وأربعة قوائم ، لكن قد تفتح جهاز حاسب إلكتروني تجد فيه العجب العجائب ، تقول : يا أخي شيءٌ معقد ، هل تعني بالتعقيد أن الشيء ضعيف؟ لا ، بل تعني بالتعقيد شيء عظيم ، ترى آلاف الصمامات ، التفصيلات ، المؤشرات ، العدادات ، الضوابط تشعر بصداع في الرأس من شدة التعقيد ، تقول : يا أخي شيء معقد ، وتعني بالتعقيد أنه شيء عظيم .
وأنت أيها الإنسان من أعقد المخلوقات في الكون ، أنت الإنسان المخلوق المكرم ، ولأنك مكرم تحتاج إلى تعليمات ، تحتاج إلى منهج ، إلى دستور ؛ افعل ولا تفعل ، لا تنس أيها الأخ الكريم قوله تعالى :
( سورة الإسراء : من آية " 9 " )
إعجاز القرآن في إيجازه ..
أقوم في أي شيء ؟ في كل شيء ، إذا طبَّقت آيات القرآن المتعلقة في الصحة تهتدي إلى صحةٍ طيبة طوال حياتك ، قال تعالى :
( سورة الإسراء : من آية " 31 " )
إذا اهتديت ، وطبقت آيات القرآن الكريم في شأن الزواج ..
( سورة النساء )
آياتٌ كثيرة في الزواج ، في الأولاد ، في التربية ، في التجارة ، في البيع ، في الشراء ، لو طبَّقت آيات القرآن الكريم في كل شؤون حياتك ، لهداك القرآن إلى الحالة المثلى ، إلى التي هي أقوم ..
( سورة الإسراء : من آية " 9 " )
أقول لكم دائماً : ربما كانت التعليمات أهم من الآلة ، ما الذي يؤكد هذا ؟ الآلة المعقدة إن استخدمتها من دون تعليمات خرَّبتها ، وإن خفت عليها من العطب ، وليس معك التعليمات ، وجمَّدت الآلة ، خسرتها ، إذاً التعليمات أخطر من الآلة ، ما الذي يؤكد ذلك ؟ قول الله عزَّ وجل :
( سورة الرحمن )
لماذا قُدَّم تعليم القرآن على خلق الإنسان ؟ لأن التعليمات التي جاءت في هذا القرآن الكريم من الخطورة حيث قدِّمتْ على وجود الإنسان ، فوجود الإنسان من دون هذه التعليمات ، وهذه التوجيهات ، وهذا المنهج ، وجودٌ عابث لا قيمة له ، ما قيمة الإنسان وهو كالشاة العائرة بين الغنمين ؟ ما قيمة الإنسان وهو كالناقة الحرون ؟ ما قيمة الإنسان وهو كالتي تَخْبِط خبط عشواء ؟ راقب الناس ، راقب الضالين ، راقب التائهين ، راقب الشاردين ، تجد الإنسان ضائعًا لا يعرف لماذا هو في الدنيا ، ساعةً يُقبل على لذاته ليقتنصها ، ساعةً يقبل على جمع الدرهم والدينار ، ساعةً يكون مع زيد ، وأخرى مع عبيد ، هذه الحالة ؛ التيه ، والضياع تعبير عن أن هذه الآلة المعقدة ذات الطاقات الكبيرة من دون توجيه ، آلة من دون توجيه ، كيف أن المركبة إذا انطلقت بسرعةٍ عالية ، وليس لها موجه فالدمار محقق ، فإنسان من دون قرآن هلاك ، دمار ، شقاء ، ضياع ، قلق .
لذلك :
القرآن مقدمٌ على وجودك ، لأن وجودك من دون قرآن لا معنى له ، ضياعٌ ، شقاءٌ ، قلقٌ عدوانٌ ، انحرافٌ ، تجاوزٌ ، بغيٌ ، خوفٌ ، يأسٌ ، سوداويةٌ ، هكذا ، فلذلك النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أَنَّ النَبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ : ((إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ)) .
القضية أولاً بادئ ذي بدء ، لا شيء مقدمٌ عليك ، فقبل أن تهدي الآخرين عليك أن تهدي نفسك .
يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
* * *
عندئذٍ إذا قلت يسمع بقولك ، إذا قلت : يقتدى بك ، لأنك جئت بالحقيقة مع البرهان عليها ، البرهان عليه سلوكك ، تطبيقك ، التزامك ، فهذا الحديث خطير ..
((إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا))، يعني إذا قرأت القرآن ، وعرفت ما فيه ، عرفت مضامينه ، عرفت إرشاداته ، عرفت توجيهاته ، عرفت قوانينه ، فكم كنت أتمنى على إخوتنا الكرام أن يقرؤوا القرآن ليكتشفوا القوانين التي جاءت به ، القوانين يعني قواعد ثابتة ، سنن قطعية ، طرائق مُقَنَّنة لا تبدل ، لا تغير ، لا تعدل ، لا تجمد ، لا يضاف عليها ، لا يحذف منها ..
( سورة يونس : من آية " 64 " )
( سورة الكهف : من آية " 27 " )
ما هي كلماته ؟ قوانينه ، لو سألنا الآن : مَن يذكر آية فيها قانون ؟ تعامل ثابت مع الله ، لما خلق الله عزَّ وجل الإنسان وضع له منهجًا ثابتًا ، قواعد صارمة ، مَن يذكر من كتاب الله آية تأخذ معنى القانون ، السنة الثابتة ، القاعدة الأصيلة التي لا تتبدل ، ولا تتغير ولا تُجَمَّد ، ولا تعدل ؟ الآن تكلم أخونا عن آية ، الآية هي قانون التيسير والتعسير ، كل واحد منا إذا بدأ بعمل وجد فيه عقبات ، الطريق مسدود ، تعسيرات ، الجهاز تعطَّل ، الآلة كُسِرَت ، ما وجد شخصًا بعد موعد رسمي ، ركب السيارة من جهة إلى جهة ، سافر إليه فوجده سافر ، ليس هناك شيء أشق على النفس من التعسير ، النبي عليه الصلاة والسلام يقول : ((اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً)) .
(من الأذكار النووية : عن " أنس (
عندما تجد الأمور ميسَّرة بعملك ، ببيتك ، بزواجك ، بعلاقاتك مع إخوانك تشعر براحة كبيرة جداً ، تحس أن الله يحبك ، وإذا جاءت الأمور معسرة ؛ الطريق مسدود ، الطريق خطر الشخص تخلى عنك ، فلان وعدك فأخلف ، اللقاء ما تم ، الوساطة ما نجحت ، تحس بضيق شديد ، لكن هذا الضيق الذي أساسه التعسير ، وهذه الراحة التي أساسها التيسير ألها قانون ؟ هذا هو القانون :
( سورة الليل )
إما أن تكون مسيراً إلى التعسير ، وإما أن تكون مسيراً إلى التيسير ، ثمن التيسير ..
صدَّقت بهذا القرآن ، أو صدقت بهذا الدين ، آمنت به ، تبنَّيته ، وأعطيت مما أعطاك الله عملت الصالحات ، واتقيت أن تعصي الله ، اتقيت أن تعصيه ، يعني استقمت على أمره ، وعملت الصالحات ، وآمنت بالله وبدينه ، هذا ثمن التيسير ..
آثر أن يأخذ لا أن يعطي ، آثر أن يكون أنانياً ..
عن طاعة الله عزَّ وجل ..
لم يعبأ بهذا الدين ، قال : هذا الدين ليس لهذا الزمان ، هذا علامة تخلف ، علامة ضعف ، حالة من حالات الجهل ، هذه غيبيّات ..
هذا قانون ، فإذا أنت أدركت هذا القانون ، وآمنت بالله ؛ خالقاً ، مربياً ، مسيراً ، آمنت بكتابه منهجاً صحيحاً ، قطعي الثبوت ، قطعي الدلالة ، صحيحاً ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأعطيت مما أعطاك الله ، ترى الأمور تجري كما تحب ، لذلك هذا قانون .
قانون آخر :
( سورة الانفطار )
إذا وجدت فاجرًا واحدًا في نعيم فالقرآن فيه غلط ، القرآن حق ، الأبرار في نعيم ، نعيمٌ في الدنيا ، ونعيمٌ في الآخرة ، نعيم بهذه الطمأنينة ، نعيمٌ بهذا الاستقرار ، نعيمٌ بهذا الشعور أن الله يحبهم ، نعيمٌ بهذا الشعور أن الله راضٍ عنهم ..
جحيم البُعد ، جحيم القلق ، جحيم المعصية ، جحيم الانحراف ، جحيم العدوان ، جحيم البغي ، جحيم القلق ، في جحيم ، فإذا أردت أن تكون في نعيم فكن باراً ، وإذا خشيت أن تكون في نعيم فلا تكن فاجراً ، هذا قانون ، فأنت عندما تقرأ القرآن الكريم لا تقرأه قراءة هكذا ، هذا القرآن كلام الله عزَّ وجل ، والله أمرنا أن نقرأه وأن نتدبر آياته ، معنى التدبر أن تقف عند الآيات متأنياً ؛ ماذا تعني هذه الآية ؟ ماذا علي أن أفعل تجاهها ؟ ماذا علي أن أقوم ؟ ما الموقف الذي يجب أن أقفه من أجلها ؟
قانون ثالث :
( سورة القصص )
هذه الدار ، هذه الحياة الأبدية ، هذه السعادة الكبرى ، ثمنها لهؤلاء الذين لا يحبون أن يستعلوا على خلق الله ، لا يحبون أن يبنوا مجدهم على أنقاض الآخرين ، ولا أن يبنوا غناهم على فقرهم ، ولا حياتهم على موتهم ، ولا أمنهم على قلقهم ..
الإفساد التفريق بين المؤمنين ، التفريق بين الشركاء ، التفريق بين الأحبة ، التفريق بين الأم وابنها ، الأم وابنتها ، بين الزوج وزوجته ، بين الأخ وأخيه ، بين الصديق وصديقه ، بين الجار وجاره ..
هذا كلام خالق الكون ، كلام المُبْدع ، كلام المصمم ، كلام الذي لا يمكن أن يطرأ على كلامه تغيير ولا تبديل ، فأنت مع القول الثابت ..
( سورة إبراهيم : من آية " 27 " )
ما الذي يجعلك مطمئناً ؟ أنت مطبق لآيات قرآنية قطعية الثبوت ، وربنا عزَّ وجل جاءت من عنده وهو أصدق القائلين ، فيكفي أنك إذا قرأت آيةً كريمة وهي قوله تعالى :
( سورة الجاثية : من آية " 21 " )
يجب أن تشعر في كل دقيقةٍ وفي كل ثانيةٍ أن لك عند الله معاملة خاصة ، لأنك مؤمن ، إن الله يدافع عنك ، وأنت في عنايته ، ورعايته ، وحفظه ، هذا الشعور مسعد ، تشعر بالطمأنينة أن خالق الكون يدافع عنك، خالق الكون يحفظك ، " عبدي أعطيتك مالاً فماذا صنعت فيه ؟ قال : يا رب أنفقته على كل محتاجٍ ومسكين لثقتي بأنك خيرٌ حافظاً وأنت أرحم الراحمين ، قال : أنا الحافظ لأولادك من بعدك " فيعني يكفي أن تدعو وأنت مسافر : ((اللهم أنت الصاحبُ في السفر ، والخليفة في الأهل والمال والولد)) .
هل تستطيع أن تصاحب إنساناً في سفر ، وأن يكون هذا الإنسان في الوقت نفسه خليفةً لك في البيت ؟! مستحيل ، لا يجتمع في بني البشر صاحبٌ ومستخلف ، إن كان مستخلفاً لا يكون صاحباً ، وإن كان صاحباً لا يكون مستخلفاً ، لكن الله سبحانه وتعالى في الوقت ذاته يكون صاحبك في السفر وخليفتك في الأهل والمال والولد ، هذا الشعور أن الله سبحانه وتعالى مكانك في البيت ؛ يرعى أولادك ، يرعى أهلك ، يحفظهم من كل خطر ، وهو معك بالتيسير والتوفيق ، والمعونة ، والإمداد ، هذا شعور مسعد ، الحقيقة أن المؤمن لا يعرف قيمة إيمانه ولا المدى الذي وصل إليه ، ولا الإنجاز الذي حققه ، إلا إذا اطَّلع على أهل الدنيا فرأى ضياعهم ، رأى شقاءهم ، رأى حيرتهم ، رأى سيرهم في طريق مسدود ، رأى ضيقهم ، تبرهم ، انقباضهم ..
( سورة الرعد )
((إن القلوب لتصدأ ، قيل : وما جلاؤها ؟ قال عليه الصلاة والسلام : ذكر الله وتلاوة القرآن)).
( من تخريج أحاديث الإحياء)
إذا ضاقت نفس إنسان ، شعر بانقباض ، لأن الإنسان أحيانا يأتيه انقباض ومعالجة ، هذا الانقباض تلاوة القرآن ، لأنه قد تكون قضية ضاغطة كبيرة ، فيقرأ قول الله عزَّ وجل :
( سورة التوبة )
يرى أن هناك عطاء كبير ينتظره ، أنا مرة ضربت مثل أعيده مرة ثانية : لو أن إنسانًا دخله ألف ليرة في هذه الأيام ، وعنده ثمانية أولاد ، وبيته بالأجرة ، وعنده أمراض عديدة ومشكلات كبيرة ، وليس له من الدنيا شيء ، وله عم غير متزوج ، يملك مئات الملايين ، ومات فجأة بحادث ، فهذه المئات من الملايين صارت إليه بمجرد وفاة عمه ، ولكن هذا الإنسان الفقير لا يستطيع قبض هذه الأموال إلا بعد سنة ، إجراءات الإرث وما شاكل ذلك ، لماذا هو في هذا العام من أسعد الناس ، مع أنه لم يقبض ليرةً واحدة ، ولم يرتفع مستوى طعامه ولا درجة ، ولا لباسه ، ولا بيته ، ولا شيء من هذا القبيل ؟ لأنه دخل في الأمل ، هذا المثل وإن كان صارخًا ، وقد يكون غير واقعي ، لكنه ينبئ عن شيء ، هذا الإنسان الفقير المديون ، الذي عليه ضغط شديد ، ثمانية أولاد ، دخله ألف ليرة ، بيته بالأجرة ، مجموعة أمراض ، عليه نفقات أعباء ديون ، حينما يشعر أنه امتلك فجأةً مئتي مليون ، ولكن لن يقبضها إلا بعد عام مثلاً ، ترى في هذا العام مستبشر ، كلما رأى شيئاً طمح إلى شرائه ، يعيش في أحلام ممتعة ، هذه أحلام ، أما المؤمن يعيش في واقع ..
( سورة القصص : من آية " 61 " )
فالإنسان إذا قرأ القرآن تأتي آية بشارة ، تأتي آية لما ربنا عزَّ وجل حكى عن قارون ..
( سورة القصص : من آية " 80 " )
( سورة القصص )
فإذا وجد نفسه كلما رأى بيت فخم ، كلما رأى مركبة فخمة ، كلما رأى محلا تجاريا تذوب نفسه تمنياً لهذا المحل ، أو لهذا البيت ، يرى نفسه مع أهل الدنيا ، القرآن يوجهه : أنه إذا فعلت هذا يا عبدي فأنت مع أهل الدنيا ، مع الذين لا يعلمون ، إذاً كلما ضاق الإنسان ، ضاقت نفسه ، شعر بإحباط أحياناً ، شعر بقضية ضاغطة عليه ، إذا قرأ القرآن انشرحت نفسه، واطمأنت ، وشعرت بأنها عند الله فائزة ، إذاً : ((إن القلوب لتصدأ قيل : وما جلاؤها ؟ قال عليه الصلاة والسلام : ذكر الله وتلاوة القرآن )) .
( من تخريج أحاديث الإحياء)
إذاً : ((إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ)) .
قد ترتفع بهذا الكتاب إلى أعلى عليين ؛ لذلك احرص على قراءته ، احرص على فهمه ، احرص على تطبيقه ، هو كتاب العمر ، الكتاب المقرر ، إذا واحد دخل لمكتبية أربع جدران إلى السقف كلها كُتُب ، وعنده امتحان بعد أسبوع ، والمادة أساسية ، وهو في الصف الأخير ، والمادة الأساسية ، وإذا تخرج من هذه الجامعة عيين في منصبٍ رفيع ، وتزوج ، واشترى ، وإلى آخرة ، أيحق له أن يقرأ كتاباً آخر غير الكتاب المقرر ؟ القرآن الكريم هو الكتاب المقرر ، هو كتاب الإنسان ، هو كتاب العمر ، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام تعوَّذ من علمٍ لا ينفع ، لك أن تقرأ ألف كتاب وكتاب ، اختر الكتاب كما تختر الأصحاب ، كما تختار الأصدقاء ، هذا الكتاب يزيد فهمي للدين ، إذاً أقرأه ، هذا الكتاب العلمي يزيد فهمي لآيات الكتاب الكونية ، أقرأه ، هذا الكتاب يفيدني في كذا ، أقرأه ، هذا الكتاب لا يعنيني ، لا أقرأه ، إذاً : ((إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ)) .
كل هذا الكلام الآن منصب على أنك لو قرأت هذا القرآن وفهمته وطبقته ، أما إذا انطلقت إلى تعليمه ، أصبحت عند رسول الله من خير الناس ..
((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ)) .
(البخاري عن عثمان)
التعليم .
( سورة المائدة : من آية " 32 " )
إذا ذكّرت إنسانًا بآية قرآنية شرحتها له ، فاستوعبها ، وتأثر بها ، وطبقها فكانت هذه الآية سلماً له إلى الله عزَّ وجل ، إذا أحييت هذه النفس فكأنما أحييت الناس جميعاً ..
لذلك نحن حتى الآن نقول : إذا قرأته أنت ، قرأته لنفسك ، وفهمته لنفسك ، وطبقته في حياتك سعدت في الدنيا والآخرة ، فكيف إذا أسعدت به الآخرين .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ((لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ)) .
(متفق عليه)
يعني إذا كان ممكنًا أن تغبط أخاك المؤمن على شيء ، طبعاً هنا المقصود بالحسد الغبطة ، الغبطة الحسد المشروع ، والحسد المذموم هو أن تستكثر الخير على أخيك ، وأن تتمنى أن يزول عنه ، هذا هو الحسد الذي نهى الله عنه ..
( سورة الفلق )
ولكن علماء الحديث وجهوا هذه الكلمة في هذا الحديث على أنها الغبطة ، والغبطة إذا رأيت أخاك متعلمًا لكتاب الله يجب أن تغار منه ، يجب أن تغبطه ، أن تبارك له هذا التعلُّم وأن تتمنى أن تكون مثله ، هذه غبطة ، والغبطة مطلوبة .
((لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ)) .
(متفق عليه)
إذا كان هناك شخصيتان في المجتمع مرموقتان ، تشرئب إليها الأعناق ، تطمح إليها الأبصار ، إذا كان في المجتمع شخصيَّتان يمكن أن تكون هاتان الشخصيتان مرموقتين ، معظمتين ، مبجلتين ، محببتين ، يمكن أن نغبط هاتين الشخصيتين ، وهما رجل علمه الله القرآن ، فهو يعلمه آناء الليل وأطراف النهار ، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وأطراف النهار .
فلذلك :
الزمن يمشي ، حركة الزمن تعني أنك خاسر ، لأنه كلما مضى يوم اقتربت النهاية ، والنهاية تعني انتهاء اللذائذ ، الدنيا فيها متاعب ، فيها لذائذ ، فيها مسرات ، فيها طعام ، فيها شراب ، فيها زوجة ، فيها أولاد ، فيها وجاهة ، فيها مكانة اجتماعية ، فيها أشياء كثيرة ، فيها رحلات ، فيها سياحات ، فكلما مرَّ عقرب الزمن اقتربت من النهاية ، إذاً الزمن ليس في صالحك ، إذاً تحرك الزمن يعني أنك في خسارة ، شخص ذهب إلى مكان جميل ، كلما انقضى يوم انقضى بِضْعٌ من هذه الرحلة ، واقتربت النهاية ، فربنا عزَّ وجل قال :
علاقتك مع الزمن علاقة خسارة ، حركة عقارب الساعة تعني أنك في خسارة ، تعني أنك تقترب من النهاية ، تعني أن العمر بدأ بالتناقص ، يعني الزمن هو العد التنازلي ، المركبة الفضائية قبل أن يطلقوها يجرُون ما يسمى بالعدّ التنازلي ، يدققون قطعةً قطعة في المركبة ، فإذا كانت تامة وجاهزة ، يقولون مثلاً : إن في المركبة ثلاثة آلاف قطعة ، يفحصون القطعة رقم ثلاثة آلاف جاهزة ، ألفين وتسعمئة وتسعة وتسعين جاهزة ، ألفين وتسعمئة وثمانية وتسعين ، وهكذا ، هذا اسمه العد التنازلي ، إلى أن يصلوا إلى الصفر ، وهو يعني إطلاق المركبة ، فأنت مع الزمن في عدٍ تنازلي ، لو فرضنا أن إنسانًا مكتوبٌ له عند الله أن يعيش ستين عامًا ، فهناك عدٌّ تنازلي ، أيام بالتقويم ، يضعون رقمًا مع اليوم ، وهذا الرقم من العام ، وفي أيام يضعونها أرقام متعاكسة ، واحد كانون الثاني يضعون الواحد ، اثنينِ اثنين ، ثلاثةٍ ثلاثة ، رقم تسعين ، خمسة وتسعين ، يعني مضى من هذا العام خمسٌ وتسعون يومًا ، أحياناً بالعكس العدّ تنازلي ، أول يوم من شهر كانون الثاني يضعون ثلاثمائة وخمسة وستين ، اثنين كانون الثاني ثلاثمائة وأربعة وستين ، فإما أن تقول : كم من يوم مضى في هذا العام ؟ أو كم يوم بقي منه ؟ فأنت مع الزمن في عد تنازلي ، وكلما استيقظتَ صباحاً مضى يوم ، نقص عمره يومًا ، هذا هو العد التنازلي ، فربنا عزَّ وجل قال :
هؤلاء مستثنون من هذه الخسارة ، إذا كان لك في كل يوم تعليم الناس القرآن ، أو إنفاق المال ، أو عمل صالح ، فأنت لست في خسارة .
إذاً عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ)) .
(متفق عليه)
بالمناسبة ، رجل آتاه الله القرآن ، يقرأه قراءةً صحيحة ، شيء جميل ، إذاً هو يعلم الناس التجويد ، هذا عمل جيد جداً ، إنسان آتاه الله معانيه إذاً هو يعلم الناس تفسيره ، إنسان آتاه الله أن يطبقه ، وأن يدعو الناس إلى تطبيقه ، فالنبي عليه الصلاة والسلام جعل هذا الحديث مطلقاً: ((رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ)) .
من أين أُوتيت القرآن فأنت رابح ؛ قرأته فأنت رابح ، حفظته فأنت رابح ، جوَّدته فأنت رابح ، فهمته فأنت رابح ، درَست علومه فأنت رابح ، فسَّرته فأنت رابح ، طبَّقته فأنت رابح ((رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ)) .
المطلق على إطلاقه .
الحديث الثالث : عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((إِنَّ الَّذِي لَيْسَ فِي جَوْفِهِ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ)) .
(رواه الترمذي وقال : قَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ)
بيتٌ خربٌ مهجور ، تشبيهٌ رائع من النبي عليه الصلاة والسلام ، تجد كل ثقافته معلومات حياتية ؛ هكذا حدث ، هكذا قال فلان ، هكذا قيل ، بعيد عن القرآن الكريم ، أما إذا كان له وعاء مشحون بالمعلومات الدنيوية ، الأسعار ، الفُرَص ، المناسبات ، اللقاءات ، أخبار المجتمع ، أسعار البيوت ، أسعار الأراضي ، الأخبار العالمية ، يتَّبعها تماماً ، أما إذا أراد أن يقرأ آيةً واحدة لا يستطيع ، هذا بيتٌ خرب ، لأنه إذا جاء ملك الموت كل هذه المعلومات لا تعنينا ، هذه عملةٌ زائفة ليست رائجة عند الموت ، لكن الذي يقرأ القرآن ، ويفهمه ، ويحفظه ويفسِّره ، ويعمل به هذه عملة رائجة عند الموت ، فالنبي عليه الصلاة والسلام يحذرنا أن هذا الذي ليس في جوفه شيءٌ من القرآن كالبيت الخرب .
هناك موضوع إن شاء الله في الدرس القادم سنبحثه : أن الإنسان إذا قرأ القرآن ، وحفظه في مرحلةٍ من حياته ، ثم أهمله ، فهذا ذنبٌ عظيم ، فعلى الإنسان أن يراجع محفوظاته القرآنية من حين لآخر ، وإلا عاتبه الله عزَّ وجل ، وحاسبه ، وآخذه .
* * * * *
عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ((تَعَاهَدُوا هَذَا الْقُرْآنَ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنْ الْإِبِلِ فِي عُقُلِهَا)) .
(مسلم)
إذا أهمل الإنسان محفوظاته القرآنية ربما ضاعت منه ، ووقع في إثم شديد ، وله موضوعٌ آخر إن شاء الله تعالى نأخذه في درسٍ قادم .
* * * * *
وردني سؤال في الدرس الماضي أحب أن أجيب عنه كما وعدت السائلتين .
السؤال هو : هل هناك من مخالفةٍ شرعية لامرأةٍ تزجج حواجبها إذا كانت كثيفة ؟
هذا موضوع مطروح سابقاً ، وموضوعٌ يحتاج إلى تفصيل ، الإجابة عن هذا السؤال: من الغلو في الزينة التي حرمها الإسلام النمص ، والنمص هو نتف الشعر ، هذا من الغلو في الزينة التي حرمها الإسلام ، والمراد بالنمص إزالة شعر الحاجبين لترفيعهما أو تسويتهما ، لكن الذي أجاب عن هذا السؤال يتأكد حرمة النمص إذا كان النمص شعاراً للخليعات من النساء .
في عهد النبي عليه الصلاة والسلام كان بعض النسوة من الخليعات ، البغايا ، كان هؤلاء النسوة ينتفن حواجبهن ، فإذا فعلت امرأةٌ مسلمةٌ هذا الفعل فإنما تشبَّهت بهذه النسوة الخليعات المنحرفات البغايا ، لذلك تتأكد حرمة النمص إذا كان شعاراً للخليعات من النساء .
وقال بعض علماء الحنابلة : يجوز الحف ، فالحف شيء ، والنمص شيءٌ آخر ، حف الشارب ، وحف الحواجب يعني ترقيق الحواجب ، إذا كان في الحاجب كثافة تؤذي العين ، يقول بعض علماء الحنابلة : يجوز الحف ، فيقال : حفت المرأة وجهها أو زينته بإزالة الشعر.
وأخرج الطبري عن امرأة أبي إسحاق أنها دخلت على عائشة ، وكانت شابَّة فقالت : المرأة تحف جبينها لزوجها ؟ قالت : أميطي عنكِ الأذى ما استطعتِ ، عندنا مبدأ ثابت أن على المرأة أن تتزين لزوجها ، وهذا من أولى واجباتها ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال : ((فليتزوج فإنه أغض للبصر )) .
(من مسند الإمام أحمد )
ما معنى أغض للبصر ؟ أن الزوج إذا رأى امرأته بشكلٍ مُرضٍ ومقبول ، من غير شيء منفّر ، فهذا الوضع يعينه على غض بصره ، والمؤمن مأمور بعض بصره في كل الحالات ، ولكن الذي يعينه أكثر ، الذي يدعوه إلى غض بصره أن تكون زوجته كما يريد ، فإذا تزيَّنت المرأة لزوجها فقط بشكلٍ أنه يرضى عن زينتها ، فهذا عمل من صلب الدين للمرأة ، وهي مأمورةٌ به ، ومحاسبةٌ عن التقصير به ، لكن حينما تأتي امرأةٌ مسلمة لتقلِّد الخليعات من النساء ، المنحرفات ، الفاجرات ، السافرات، تقلد هذه المرأة المسلمة هؤلاء النسوة الخليعات ، فإن في هذا حطاً لمكانتها الإسلامية ، أما إذا شاع الشيء بين الناس ، وكان مقبولا عند العفيفات الطاهرات ، وكان يرضي زوجها ذلك ، وبدل أن تنتف الشعر ، إذا زججت حواجبها وحفتهم ، فهذا شيءٌ مقبولٌ كما جاء في المذهب الحنبلي .
عندنا كليات في الفقه ، من أساسيات الفقه أن المرأة مطالبةٌ بالتزين لزوجها .
* * *
سؤال رقم اثنين : صبغ الشعر ، ويتعلق بموضوع الزينة صبغ الشعر في الرأس ، فقد ورد أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى يمتنعون عن صبغ الشيب وتغييره ، ظناً منهم أن التجميل والتزيُّن ينافي التعبُّد والتدين ، والإسلام على عكس ذلك ، النبي عليه الصلاة والسلام قال : (( تنظفوا واستاكوا ، تطيبوا تزينوا لنسائكم)) .
( من الجامع الصغير : عن " علي ")
هذا مطلوب ، والمرأة أيضاً مطالبةٌ أن تتزين لزوجها ، وفي آية دقيقة بهذا المعنى :
( سورة البقرة : من آية " 228 " )
لها حقٌ عند الرجل كما له حقٌ عندها ، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ((إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ)) .
إذاً صبغ الشعر لا شيء عليه ، بل هو مستحبٌ ، وهذا الأمر للاستحباب كما يدل عليه فعل الصحابة ، فقد صبغ بعضهم كأبي بكرٍ وعمر ، وترك بعضهم مثل عليٍ وأبي بن كعب وأنس .
الشيء الذي أحب أن أذكره هو : أن الإنسان إذا صبغ شعره ليغشَّ مخطوبته ، أو أن المرأة إذا صبغت شعرها لتغشّ خاطبها ، فهذا الشيء نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام ، فإذا كان فيه عملية غش وتدليس فهذا لا يجوز ، أما إذا كانت عملية تزيين للزوج ، فمسموحٌ بصبغ الشعر للرجال والنساء معاً ، كما ورد في هذه الأحاديث .
* * * * *
والآن ، إلى بعض سيرة أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم
اليوم سيدنا أسيد بن حضير بطلٌ يوم السقيفة ، هذا رجل من زعماء الأنصار ، جلس أسيد بن حضير وسعد بن أبي معاذ ، وكانا زعيمي قومهما يتشاوران في أمر هذا الغريب الذي جاء من مكة يسفه دينهما ، ويدعو إلى دينٍ جديد ، مَن هو هذا الغريب الذي جاء من مكة يسفه دين أهل المدينة ، ويدعو إلى دينٍ جديد ؟ إنه مصعب بن عمير ، هذا الصحابي الجليل الذي أرسله النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة سفيراً له ، وهو أول سفيرٍ في الإسلام .
قال سعدٌ لأسيد : انطلق إلى هذا الرجل فازجره ، وحمل أسيدٌ حربته ، وأغذ السير إلى حيث كان مصعب في ضيافة أسعد بن زرارة من زعماء المدينة الذين سبقوا إلى الإسلام ، سيدنا مصعب بن عمير سفير النبي عليه الصلاة والسلام ، أوفده النبي إلى المدينة ليعلم الناس الإسلام ، ونزل في ضيافة أسعد بن زرارة ، وجاء الآن أسيد بن حضير ليزجره عن هذه الدعوة .
وعند مجلس مصعب وأسعد بن زرارة رأى أسيد جمهرةً من الناس ، تصغي في اهتمامٍ للكلمات الرشيدة التي يدعوهم بها إلى الله مصعب بن عمير ، وفاجأهم أسيد بغضبٍ وثورةٍ ، وقال له مصعب ـ دققوا في هذا اللفظ ، من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف ، المسلم لطيف ، المسلم له ظلٌ خفيف ، قال له مصعب :
ـ هل لك في أن تجلس فتستمع ، فإن رضيت أمراً قبلته ، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره .
كلام منطقي ، اسمع يا أخي ، الإنسان قبل أن يرفض عليه أن يسمع، قبل أن يهاجم عليه أن يتحقق ، قبل أن يشتم عليه أن يتبصر ، قال له : يا أخي اجلس فاستمع ، فإن رضيت أمراً قبلته ، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره ، كان أُسَيْد رجلا مستنير العقل ، ذكي القلب ، حتى لَقَّبه أهل المدينة بالكامل ، وهو لقبٌ كان يحمله أبوه من قبله ، فلما رأى مصعباً يحتكم به إلى المنطق والعقل ، غرس حربته في الأرض ، وقال لمصعب :
ـ لقد أنصت ، هاتِ ما عندك .
الموقف الآن ، سيدنا مصعب بن عمير كان منطقيًا ، وأديبًا ، ولطيفًا ، هكذا الدعوة إلى الله ، يا أخي استمع ، قبل أن تهاجم اقرأ ، قبل أن ترفض استمع إلى هذا الشريط ، تعال استمع إلى هذا الدرس ، اسمع يا أخي قبل أن تحكم غيابياً ، قبل أن تتهم ، قبل أن تهاجم ، قبل أن تجرِّح ، قبل أن تهرف في ما لا تعرف تحقق ..
( سورة الحجرات : من آية " 6 " )
قال له : والله لقد أنصت ، هاتِ ما عندك .
وراح مصعب يقرأ عليه من القرآن ، ويفسر له دعوة الدين الجديد ، الدين الحق الذي أُمِرَ محمدٌ عليه الصلاة والسلام بتبليغه ، يقول الذين حضروا هذا المجلس : والله لقد عرفنا في وجه أُسيد الإسلام قبل أن يتكلم، عرفناه في إشراقه وتسهُّله .
أحيانًا تجد وجهًا يتألق إذا سمع آية ، تفسير آية ، تفسير حديث ، تأثر فتألق الوجه ، أصبحت العينان زئبقيتين ، هناك إشراق بوجهه ، وابتسامة الرضا ، فقالوا : والله لقد عرفنا في وجه أسيد الإسلام قبل أن يتكلم ، عرفناه في إشراقه وتسهله ، ولم يكد مصعب ينهي حديثه حتى صاح أسيدٌ مبهوراً : ما أحسن هذا الكلام ، وما أجمله .
يا إخوان ، الحق مثل الغذاء تماماً ، الحق كلام ربنا عزَّ وجل ، القرآن مأدبة الله عزَّ وجل ، فإذا أكل إنسان من مأدبة الله قال :
ـ والله ما أحسن هذا الكلام وأجمله ، كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين ؟ ماذا أفعل ؟ انشرح قلبه .
ـ فقال له مصعب : تطهر بدنك وثوبك ، وتشهد الشهادة الحق ، ثم تصلي .
طبعاً الصحابي الجليل سعد بن معاذ كان على دين آبائه ، فأرسل أسيدٌ بن حضير كي يزجر سيدنا مصعب بن عمير عن دعوته ، وهو ينتظره ، الآن رجع أسيد بن حضير إلى سعد بن معاذ ، نظر إلى وجهه ، وقال : أقسم لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به ، قبل أن يتكلم ، قبل أن ينطق بكلمة وجد وجهًا مشرقًا فيه راحة ، فيه طمأنينة ، لأن الحق مسعد ، فقد ذهب حانقاً ، حاقداً ، متألماً فيه بغيضة ، وعاد بوجه مشرق ، قال :
ـ والله أقسم لقد جاءكم أسيد يغير الوجه الذي ذهب به .
ـ فقال أسيد : أجل . نعم .
هناك شيء بسيدنا أسيد ، كان ذكيًّا جداً ، لو قال لسيدنا سعد بن معاذ : اذهب فأسلم كما أسلمت ، ربما لا يرضى ، قد يحنق ، قد يهاجمه ، فأراد بأسلوبٍ ذكي أن يجره إلى سيدنا مصعب ، الآن أراد سيدنا أسيد من سعد بن معاذ أن يجره إلى سيدنا مصعب ، وكان مصعب ـ كما ذكرنا ـ ينزل ضيفاً على أسعد بن زرارة ، وأسعد بن زرارة هو ابن خالة سعد بن معاذ ، هناك قال أسيد لسعد : لقد حُدِّثت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه ، وهم يعلمون أنه ابن خالتك ، يريد سحبه لعند مصعب .
وقام سعدٌ تقوده الحمية والغضب ، وأخذ الحربة ، وسار مسرعاً إلى حيث أسعد ومصعب ومن معهما من المسلمين ، ولما اقترب من المجلس لم يجد ضوضاءً ، ولا لغطاً ، وإنما هي السكينة تغشى جماعةً يتوسَّطهم مصعب بن عمير يتلو آيات الله في خشوع ، وهم يصغون إليه في اهتمامٍ عظيم ، هناك أدرك الحيلة التي نسجها له أسيد لكي يحمله على السعي إلى هذا المجلس .
أحياناً ـ هذه لها معنى ـ يكون الإنسان متفانيًا في الحق ومندفعًا ، لكن الله ما آتاه القدرة على إقناع الآخرين ، القدرة على الإقناع ، القدرة على البيان ، القدرة على التفصيل ، التوضيح هذه قدرة الله عزَّ وجل يؤتيها من يشاء من عباده ، فإذا أراد المسلم أن يهدي الآخرين وليس عنده إمكانية ، عنده أسلوب واحد هو أن يأتي بهم إلى المسجد ، أقنعه أن يأتي ليصلي معك العشاء في المسجد أو المغرب ، فسيدنا أسيد ماذا فعل مع سيدنا سعد ؟ جلبه إلى المسجد ، وهنا أدرك الحيلة التي نسجت له ، ولقد صدقت هذه الفراسة ، فكما كاد سعد يسمع حتى شرح الله له صدره للإسلام ، وأخذ مكانه بسرعةٍ بين المؤمنين .
سيدنا مصعب جاء للمدينة سفيرًا ، آمن به جماعةٌ كُثُر ، وهؤلاء الجماعة أضيف إليهم سيِّدان من سادة الأنصار ؛ أسيد بن خضير ، وسعد بن معاذ .
عندنا مشكلة ، هذا ابن أبيّ زعيم المنافقين ، هذا الذي كره النبي عليه الصلاة والسلام ، وتحدث عنه بما لا يرضي الله عزَّ وجل ، وكان خصماً عنيداً له ، السبب أن هذا الرجل كان على وشك أن يتوَّج ملكاً على المدينة ، فلما جاء النبي عليه الصلاة والسلام ذهب ملكه ، فصار عنده حقد ، أنا أعجبني من موقف سيدنا أسيد أنه لما قال هذا المنافق الكبير أو زعيم المنافقين : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، قال أسيد : فأنت والله يا رسول الله تخرجه منها إن شاء الله ، هو والله الذليل وأنت العزيز .
كأنه طمأن النبي ، والتمس له العذر ، قال له : يا رسول الله ارفق به ، فو الله لقد جاءنا الله بك ، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه على المدينة ملكاً ، فهو يرى أن الإسلام قد سلبه ملكاً ، هذا الكلام لطيف مع رسول الله ، يعني هذا الرجل يعاديك ، وأنت الأعز ، وهو الأذل ، لكن له وضع نفسي خاص ، هذا كان على وشك أن يكون ملكًا ، فلما جاء الله بك خسر ملكه بهذا الإسلام ، كأنه أعطاه تبريرًا لطيفًا ، أو أعطاه شيئًا من العذر بهذا الموقف المعادي ، فالإنسان ليس له حق أن يؤجج ، له الحق أن يبرر ، المسلم يبرر ولا يؤجج ، عارضك شخص ، أو تكلم عليك ، وليس له حق في الكلام عليك ، هذا يسيء ، أنت أججته أكثر ، هذا له وضع خاص ، مزعوج من قضية ، إذا وجدت خصومة فالمفروض أن تهفف ولا تكبر ، تصغر الأمر ، هناك أشخاص يكبرون ، وأشخاص يخففون ، أما هذا الموقف فقد أعجبني ، قال : يا رسول الله ارفق به ، فو الله لقد جاءنا الله بك ، وإن قومك لينظمون له الخرز ليتوجوه على المدينة ملكاً ، فهو يرى أن الإسلام قد سلبه ملكاً .
آخر موقف لهذا الصحابي الجليل ، لما صار الخلاف بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام على الخلافة ، بعض الأنصار طالبوها لأنفسهم ، وبعضهم طالبوها لسيدنا الصديق ، ماذا قال أسيد ؟ خاطب الأنصار فقال : تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين ، فخليفته إذاً ينبغي أن يكون من المهاجرين ، ولقد كنا أنصار رسول الله عليه الصلاة والسلام ، وعلينا اليوم أن نكون أنصار خليفته ، وكانت كلماته برداً وسلاماً في هذا المجلس ، لذلك سماه علماء السيرة ( بطل يوم السقيفة ) ، بهذه الطريقة اجتمع الشمل ، والتأم الجميع ، وبايعوا سيدنا الصديق . قال : أنتم الأنصار يجب أن تكونوا أيضاً أنصار خليفة رسول الله .
وتوفاه الله عزَّ وجل ، وقال وهو على وشك الموت : اصبروا حتى تلقوني على الحوض ، كان في ساعة بشرى من الله عزَّ وجل .
والحمد لله رب العالمين
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ... لازلنا في كتاب رياض الصالحين ، واليوم في الباب الذي عنوانه ( فضل قراءة القرآن ) .
قَالَ عُمَرُ : إِنَّ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ : ((إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ)) .
(مسلم)
معنى ذلك كما قلت في الدرس الماضي ، يوم الجمعة ، أن هناك مصادر عدَّة للمعرفة ؛ منها الكون ، ومنها الحوادث ، لكن القرآن معرفةٌ شاملة ، القرآن بيانٌ إلهي ؛ فيه آياتٌ كونية ، وفيه مشاهد ليوم القيامة ، وفيه وعدٌ ووعيد ، وفيه تبشيرٌ وإنذار ، وفيه حِكَم ، وفيه قصص ، وفيه أمثال ، وفيه أخبار ، وفيه مُغَيَّبات ، وفيه أحكام ، إذاً بيان إلهي ، الله عزَّ وجل قال :
( سورة المائدة : من آية " 3 " )
الذي يكملك أيها الإنسان هو كلام الله عزَّ وجل ، أنت مخلوق في أعلى درجات التعقيد ؛ نوازع ، دوافع ، شهوات ، ميول ، إدراك ، طموحات ، فطرة ، صبغة ، كائن من أعقد الكائنات ، لا تعقيد عجز بل تعقيد إبداع ، قد تجد طاولة في بيتك ، هذه الطاولة غير معقدة لوحٌ من الخشب وأربعة قوائم ، لكن قد تفتح جهاز حاسب إلكتروني تجد فيه العجب العجائب ، تقول : يا أخي شيءٌ معقد ، هل تعني بالتعقيد أن الشيء ضعيف؟ لا ، بل تعني بالتعقيد شيء عظيم ، ترى آلاف الصمامات ، التفصيلات ، المؤشرات ، العدادات ، الضوابط تشعر بصداع في الرأس من شدة التعقيد ، تقول : يا أخي شيء معقد ، وتعني بالتعقيد أنه شيء عظيم .
وأنت أيها الإنسان من أعقد المخلوقات في الكون ، أنت الإنسان المخلوق المكرم ، ولأنك مكرم تحتاج إلى تعليمات ، تحتاج إلى منهج ، إلى دستور ؛ افعل ولا تفعل ، لا تنس أيها الأخ الكريم قوله تعالى :
( سورة الإسراء : من آية " 9 " )
إعجاز القرآن في إيجازه ..
أقوم في أي شيء ؟ في كل شيء ، إذا طبَّقت آيات القرآن المتعلقة في الصحة تهتدي إلى صحةٍ طيبة طوال حياتك ، قال تعالى :
( سورة الإسراء : من آية " 31 " )
إذا اهتديت ، وطبقت آيات القرآن الكريم في شأن الزواج ..
( سورة النساء )
آياتٌ كثيرة في الزواج ، في الأولاد ، في التربية ، في التجارة ، في البيع ، في الشراء ، لو طبَّقت آيات القرآن الكريم في كل شؤون حياتك ، لهداك القرآن إلى الحالة المثلى ، إلى التي هي أقوم ..
( سورة الإسراء : من آية " 9 " )
أقول لكم دائماً : ربما كانت التعليمات أهم من الآلة ، ما الذي يؤكد هذا ؟ الآلة المعقدة إن استخدمتها من دون تعليمات خرَّبتها ، وإن خفت عليها من العطب ، وليس معك التعليمات ، وجمَّدت الآلة ، خسرتها ، إذاً التعليمات أخطر من الآلة ، ما الذي يؤكد ذلك ؟ قول الله عزَّ وجل :
( سورة الرحمن )
لماذا قُدَّم تعليم القرآن على خلق الإنسان ؟ لأن التعليمات التي جاءت في هذا القرآن الكريم من الخطورة حيث قدِّمتْ على وجود الإنسان ، فوجود الإنسان من دون هذه التعليمات ، وهذه التوجيهات ، وهذا المنهج ، وجودٌ عابث لا قيمة له ، ما قيمة الإنسان وهو كالشاة العائرة بين الغنمين ؟ ما قيمة الإنسان وهو كالناقة الحرون ؟ ما قيمة الإنسان وهو كالتي تَخْبِط خبط عشواء ؟ راقب الناس ، راقب الضالين ، راقب التائهين ، راقب الشاردين ، تجد الإنسان ضائعًا لا يعرف لماذا هو في الدنيا ، ساعةً يُقبل على لذاته ليقتنصها ، ساعةً يقبل على جمع الدرهم والدينار ، ساعةً يكون مع زيد ، وأخرى مع عبيد ، هذه الحالة ؛ التيه ، والضياع تعبير عن أن هذه الآلة المعقدة ذات الطاقات الكبيرة من دون توجيه ، آلة من دون توجيه ، كيف أن المركبة إذا انطلقت بسرعةٍ عالية ، وليس لها موجه فالدمار محقق ، فإنسان من دون قرآن هلاك ، دمار ، شقاء ، ضياع ، قلق .
لذلك :
القرآن مقدمٌ على وجودك ، لأن وجودك من دون قرآن لا معنى له ، ضياعٌ ، شقاءٌ ، قلقٌ عدوانٌ ، انحرافٌ ، تجاوزٌ ، بغيٌ ، خوفٌ ، يأسٌ ، سوداويةٌ ، هكذا ، فلذلك النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أَنَّ النَبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ : ((إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ)) .
القضية أولاً بادئ ذي بدء ، لا شيء مقدمٌ عليك ، فقبل أن تهدي الآخرين عليك أن تهدي نفسك .
يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
* * *
عندئذٍ إذا قلت يسمع بقولك ، إذا قلت : يقتدى بك ، لأنك جئت بالحقيقة مع البرهان عليها ، البرهان عليه سلوكك ، تطبيقك ، التزامك ، فهذا الحديث خطير ..
((إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا))، يعني إذا قرأت القرآن ، وعرفت ما فيه ، عرفت مضامينه ، عرفت إرشاداته ، عرفت توجيهاته ، عرفت قوانينه ، فكم كنت أتمنى على إخوتنا الكرام أن يقرؤوا القرآن ليكتشفوا القوانين التي جاءت به ، القوانين يعني قواعد ثابتة ، سنن قطعية ، طرائق مُقَنَّنة لا تبدل ، لا تغير ، لا تعدل ، لا تجمد ، لا يضاف عليها ، لا يحذف منها ..
( سورة يونس : من آية " 64 " )
( سورة الكهف : من آية " 27 " )
ما هي كلماته ؟ قوانينه ، لو سألنا الآن : مَن يذكر آية فيها قانون ؟ تعامل ثابت مع الله ، لما خلق الله عزَّ وجل الإنسان وضع له منهجًا ثابتًا ، قواعد صارمة ، مَن يذكر من كتاب الله آية تأخذ معنى القانون ، السنة الثابتة ، القاعدة الأصيلة التي لا تتبدل ، ولا تتغير ولا تُجَمَّد ، ولا تعدل ؟ الآن تكلم أخونا عن آية ، الآية هي قانون التيسير والتعسير ، كل واحد منا إذا بدأ بعمل وجد فيه عقبات ، الطريق مسدود ، تعسيرات ، الجهاز تعطَّل ، الآلة كُسِرَت ، ما وجد شخصًا بعد موعد رسمي ، ركب السيارة من جهة إلى جهة ، سافر إليه فوجده سافر ، ليس هناك شيء أشق على النفس من التعسير ، النبي عليه الصلاة والسلام يقول : ((اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً)) .
(من الأذكار النووية : عن " أنس (
عندما تجد الأمور ميسَّرة بعملك ، ببيتك ، بزواجك ، بعلاقاتك مع إخوانك تشعر براحة كبيرة جداً ، تحس أن الله يحبك ، وإذا جاءت الأمور معسرة ؛ الطريق مسدود ، الطريق خطر الشخص تخلى عنك ، فلان وعدك فأخلف ، اللقاء ما تم ، الوساطة ما نجحت ، تحس بضيق شديد ، لكن هذا الضيق الذي أساسه التعسير ، وهذه الراحة التي أساسها التيسير ألها قانون ؟ هذا هو القانون :
( سورة الليل )
إما أن تكون مسيراً إلى التعسير ، وإما أن تكون مسيراً إلى التيسير ، ثمن التيسير ..
صدَّقت بهذا القرآن ، أو صدقت بهذا الدين ، آمنت به ، تبنَّيته ، وأعطيت مما أعطاك الله عملت الصالحات ، واتقيت أن تعصي الله ، اتقيت أن تعصيه ، يعني استقمت على أمره ، وعملت الصالحات ، وآمنت بالله وبدينه ، هذا ثمن التيسير ..
آثر أن يأخذ لا أن يعطي ، آثر أن يكون أنانياً ..
عن طاعة الله عزَّ وجل ..
لم يعبأ بهذا الدين ، قال : هذا الدين ليس لهذا الزمان ، هذا علامة تخلف ، علامة ضعف ، حالة من حالات الجهل ، هذه غيبيّات ..
هذا قانون ، فإذا أنت أدركت هذا القانون ، وآمنت بالله ؛ خالقاً ، مربياً ، مسيراً ، آمنت بكتابه منهجاً صحيحاً ، قطعي الثبوت ، قطعي الدلالة ، صحيحاً ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأعطيت مما أعطاك الله ، ترى الأمور تجري كما تحب ، لذلك هذا قانون .
قانون آخر :
( سورة الانفطار )
إذا وجدت فاجرًا واحدًا في نعيم فالقرآن فيه غلط ، القرآن حق ، الأبرار في نعيم ، نعيمٌ في الدنيا ، ونعيمٌ في الآخرة ، نعيم بهذه الطمأنينة ، نعيمٌ بهذا الاستقرار ، نعيمٌ بهذا الشعور أن الله يحبهم ، نعيمٌ بهذا الشعور أن الله راضٍ عنهم ..
جحيم البُعد ، جحيم القلق ، جحيم المعصية ، جحيم الانحراف ، جحيم العدوان ، جحيم البغي ، جحيم القلق ، في جحيم ، فإذا أردت أن تكون في نعيم فكن باراً ، وإذا خشيت أن تكون في نعيم فلا تكن فاجراً ، هذا قانون ، فأنت عندما تقرأ القرآن الكريم لا تقرأه قراءة هكذا ، هذا القرآن كلام الله عزَّ وجل ، والله أمرنا أن نقرأه وأن نتدبر آياته ، معنى التدبر أن تقف عند الآيات متأنياً ؛ ماذا تعني هذه الآية ؟ ماذا علي أن أفعل تجاهها ؟ ماذا علي أن أقوم ؟ ما الموقف الذي يجب أن أقفه من أجلها ؟
قانون ثالث :
( سورة القصص )
هذه الدار ، هذه الحياة الأبدية ، هذه السعادة الكبرى ، ثمنها لهؤلاء الذين لا يحبون أن يستعلوا على خلق الله ، لا يحبون أن يبنوا مجدهم على أنقاض الآخرين ، ولا أن يبنوا غناهم على فقرهم ، ولا حياتهم على موتهم ، ولا أمنهم على قلقهم ..
الإفساد التفريق بين المؤمنين ، التفريق بين الشركاء ، التفريق بين الأحبة ، التفريق بين الأم وابنها ، الأم وابنتها ، بين الزوج وزوجته ، بين الأخ وأخيه ، بين الصديق وصديقه ، بين الجار وجاره ..
هذا كلام خالق الكون ، كلام المُبْدع ، كلام المصمم ، كلام الذي لا يمكن أن يطرأ على كلامه تغيير ولا تبديل ، فأنت مع القول الثابت ..
( سورة إبراهيم : من آية " 27 " )
ما الذي يجعلك مطمئناً ؟ أنت مطبق لآيات قرآنية قطعية الثبوت ، وربنا عزَّ وجل جاءت من عنده وهو أصدق القائلين ، فيكفي أنك إذا قرأت آيةً كريمة وهي قوله تعالى :
( سورة الجاثية : من آية " 21 " )
يجب أن تشعر في كل دقيقةٍ وفي كل ثانيةٍ أن لك عند الله معاملة خاصة ، لأنك مؤمن ، إن الله يدافع عنك ، وأنت في عنايته ، ورعايته ، وحفظه ، هذا الشعور مسعد ، تشعر بالطمأنينة أن خالق الكون يدافع عنك، خالق الكون يحفظك ، " عبدي أعطيتك مالاً فماذا صنعت فيه ؟ قال : يا رب أنفقته على كل محتاجٍ ومسكين لثقتي بأنك خيرٌ حافظاً وأنت أرحم الراحمين ، قال : أنا الحافظ لأولادك من بعدك " فيعني يكفي أن تدعو وأنت مسافر : ((اللهم أنت الصاحبُ في السفر ، والخليفة في الأهل والمال والولد)) .
هل تستطيع أن تصاحب إنساناً في سفر ، وأن يكون هذا الإنسان في الوقت نفسه خليفةً لك في البيت ؟! مستحيل ، لا يجتمع في بني البشر صاحبٌ ومستخلف ، إن كان مستخلفاً لا يكون صاحباً ، وإن كان صاحباً لا يكون مستخلفاً ، لكن الله سبحانه وتعالى في الوقت ذاته يكون صاحبك في السفر وخليفتك في الأهل والمال والولد ، هذا الشعور أن الله سبحانه وتعالى مكانك في البيت ؛ يرعى أولادك ، يرعى أهلك ، يحفظهم من كل خطر ، وهو معك بالتيسير والتوفيق ، والمعونة ، والإمداد ، هذا شعور مسعد ، الحقيقة أن المؤمن لا يعرف قيمة إيمانه ولا المدى الذي وصل إليه ، ولا الإنجاز الذي حققه ، إلا إذا اطَّلع على أهل الدنيا فرأى ضياعهم ، رأى شقاءهم ، رأى حيرتهم ، رأى سيرهم في طريق مسدود ، رأى ضيقهم ، تبرهم ، انقباضهم ..
( سورة الرعد )
((إن القلوب لتصدأ ، قيل : وما جلاؤها ؟ قال عليه الصلاة والسلام : ذكر الله وتلاوة القرآن)).
( من تخريج أحاديث الإحياء)
إذا ضاقت نفس إنسان ، شعر بانقباض ، لأن الإنسان أحيانا يأتيه انقباض ومعالجة ، هذا الانقباض تلاوة القرآن ، لأنه قد تكون قضية ضاغطة كبيرة ، فيقرأ قول الله عزَّ وجل :
( سورة التوبة )
يرى أن هناك عطاء كبير ينتظره ، أنا مرة ضربت مثل أعيده مرة ثانية : لو أن إنسانًا دخله ألف ليرة في هذه الأيام ، وعنده ثمانية أولاد ، وبيته بالأجرة ، وعنده أمراض عديدة ومشكلات كبيرة ، وليس له من الدنيا شيء ، وله عم غير متزوج ، يملك مئات الملايين ، ومات فجأة بحادث ، فهذه المئات من الملايين صارت إليه بمجرد وفاة عمه ، ولكن هذا الإنسان الفقير لا يستطيع قبض هذه الأموال إلا بعد سنة ، إجراءات الإرث وما شاكل ذلك ، لماذا هو في هذا العام من أسعد الناس ، مع أنه لم يقبض ليرةً واحدة ، ولم يرتفع مستوى طعامه ولا درجة ، ولا لباسه ، ولا بيته ، ولا شيء من هذا القبيل ؟ لأنه دخل في الأمل ، هذا المثل وإن كان صارخًا ، وقد يكون غير واقعي ، لكنه ينبئ عن شيء ، هذا الإنسان الفقير المديون ، الذي عليه ضغط شديد ، ثمانية أولاد ، دخله ألف ليرة ، بيته بالأجرة ، مجموعة أمراض ، عليه نفقات أعباء ديون ، حينما يشعر أنه امتلك فجأةً مئتي مليون ، ولكن لن يقبضها إلا بعد عام مثلاً ، ترى في هذا العام مستبشر ، كلما رأى شيئاً طمح إلى شرائه ، يعيش في أحلام ممتعة ، هذه أحلام ، أما المؤمن يعيش في واقع ..
( سورة القصص : من آية " 61 " )
فالإنسان إذا قرأ القرآن تأتي آية بشارة ، تأتي آية لما ربنا عزَّ وجل حكى عن قارون ..
( سورة القصص : من آية " 80 " )
( سورة القصص )
فإذا وجد نفسه كلما رأى بيت فخم ، كلما رأى مركبة فخمة ، كلما رأى محلا تجاريا تذوب نفسه تمنياً لهذا المحل ، أو لهذا البيت ، يرى نفسه مع أهل الدنيا ، القرآن يوجهه : أنه إذا فعلت هذا يا عبدي فأنت مع أهل الدنيا ، مع الذين لا يعلمون ، إذاً كلما ضاق الإنسان ، ضاقت نفسه ، شعر بإحباط أحياناً ، شعر بقضية ضاغطة عليه ، إذا قرأ القرآن انشرحت نفسه، واطمأنت ، وشعرت بأنها عند الله فائزة ، إذاً : ((إن القلوب لتصدأ قيل : وما جلاؤها ؟ قال عليه الصلاة والسلام : ذكر الله وتلاوة القرآن )) .
( من تخريج أحاديث الإحياء)
إذاً : ((إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ)) .
قد ترتفع بهذا الكتاب إلى أعلى عليين ؛ لذلك احرص على قراءته ، احرص على فهمه ، احرص على تطبيقه ، هو كتاب العمر ، الكتاب المقرر ، إذا واحد دخل لمكتبية أربع جدران إلى السقف كلها كُتُب ، وعنده امتحان بعد أسبوع ، والمادة أساسية ، وهو في الصف الأخير ، والمادة الأساسية ، وإذا تخرج من هذه الجامعة عيين في منصبٍ رفيع ، وتزوج ، واشترى ، وإلى آخرة ، أيحق له أن يقرأ كتاباً آخر غير الكتاب المقرر ؟ القرآن الكريم هو الكتاب المقرر ، هو كتاب الإنسان ، هو كتاب العمر ، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام تعوَّذ من علمٍ لا ينفع ، لك أن تقرأ ألف كتاب وكتاب ، اختر الكتاب كما تختر الأصحاب ، كما تختار الأصدقاء ، هذا الكتاب يزيد فهمي للدين ، إذاً أقرأه ، هذا الكتاب العلمي يزيد فهمي لآيات الكتاب الكونية ، أقرأه ، هذا الكتاب يفيدني في كذا ، أقرأه ، هذا الكتاب لا يعنيني ، لا أقرأه ، إذاً : ((إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ)) .
كل هذا الكلام الآن منصب على أنك لو قرأت هذا القرآن وفهمته وطبقته ، أما إذا انطلقت إلى تعليمه ، أصبحت عند رسول الله من خير الناس ..
((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ)) .
(البخاري عن عثمان)
التعليم .
( سورة المائدة : من آية " 32 " )
إذا ذكّرت إنسانًا بآية قرآنية شرحتها له ، فاستوعبها ، وتأثر بها ، وطبقها فكانت هذه الآية سلماً له إلى الله عزَّ وجل ، إذا أحييت هذه النفس فكأنما أحييت الناس جميعاً ..
لذلك نحن حتى الآن نقول : إذا قرأته أنت ، قرأته لنفسك ، وفهمته لنفسك ، وطبقته في حياتك سعدت في الدنيا والآخرة ، فكيف إذا أسعدت به الآخرين .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ((لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ)) .
(متفق عليه)
يعني إذا كان ممكنًا أن تغبط أخاك المؤمن على شيء ، طبعاً هنا المقصود بالحسد الغبطة ، الغبطة الحسد المشروع ، والحسد المذموم هو أن تستكثر الخير على أخيك ، وأن تتمنى أن يزول عنه ، هذا هو الحسد الذي نهى الله عنه ..
( سورة الفلق )
ولكن علماء الحديث وجهوا هذه الكلمة في هذا الحديث على أنها الغبطة ، والغبطة إذا رأيت أخاك متعلمًا لكتاب الله يجب أن تغار منه ، يجب أن تغبطه ، أن تبارك له هذا التعلُّم وأن تتمنى أن تكون مثله ، هذه غبطة ، والغبطة مطلوبة .
((لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ)) .
(متفق عليه)
إذا كان هناك شخصيتان في المجتمع مرموقتان ، تشرئب إليها الأعناق ، تطمح إليها الأبصار ، إذا كان في المجتمع شخصيَّتان يمكن أن تكون هاتان الشخصيتان مرموقتين ، معظمتين ، مبجلتين ، محببتين ، يمكن أن نغبط هاتين الشخصيتين ، وهما رجل علمه الله القرآن ، فهو يعلمه آناء الليل وأطراف النهار ، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وأطراف النهار .
فلذلك :
الزمن يمشي ، حركة الزمن تعني أنك خاسر ، لأنه كلما مضى يوم اقتربت النهاية ، والنهاية تعني انتهاء اللذائذ ، الدنيا فيها متاعب ، فيها لذائذ ، فيها مسرات ، فيها طعام ، فيها شراب ، فيها زوجة ، فيها أولاد ، فيها وجاهة ، فيها مكانة اجتماعية ، فيها أشياء كثيرة ، فيها رحلات ، فيها سياحات ، فكلما مرَّ عقرب الزمن اقتربت من النهاية ، إذاً الزمن ليس في صالحك ، إذاً تحرك الزمن يعني أنك في خسارة ، شخص ذهب إلى مكان جميل ، كلما انقضى يوم انقضى بِضْعٌ من هذه الرحلة ، واقتربت النهاية ، فربنا عزَّ وجل قال :
علاقتك مع الزمن علاقة خسارة ، حركة عقارب الساعة تعني أنك في خسارة ، تعني أنك تقترب من النهاية ، تعني أن العمر بدأ بالتناقص ، يعني الزمن هو العد التنازلي ، المركبة الفضائية قبل أن يطلقوها يجرُون ما يسمى بالعدّ التنازلي ، يدققون قطعةً قطعة في المركبة ، فإذا كانت تامة وجاهزة ، يقولون مثلاً : إن في المركبة ثلاثة آلاف قطعة ، يفحصون القطعة رقم ثلاثة آلاف جاهزة ، ألفين وتسعمئة وتسعة وتسعين جاهزة ، ألفين وتسعمئة وثمانية وتسعين ، وهكذا ، هذا اسمه العد التنازلي ، إلى أن يصلوا إلى الصفر ، وهو يعني إطلاق المركبة ، فأنت مع الزمن في عدٍ تنازلي ، لو فرضنا أن إنسانًا مكتوبٌ له عند الله أن يعيش ستين عامًا ، فهناك عدٌّ تنازلي ، أيام بالتقويم ، يضعون رقمًا مع اليوم ، وهذا الرقم من العام ، وفي أيام يضعونها أرقام متعاكسة ، واحد كانون الثاني يضعون الواحد ، اثنينِ اثنين ، ثلاثةٍ ثلاثة ، رقم تسعين ، خمسة وتسعين ، يعني مضى من هذا العام خمسٌ وتسعون يومًا ، أحياناً بالعكس العدّ تنازلي ، أول يوم من شهر كانون الثاني يضعون ثلاثمائة وخمسة وستين ، اثنين كانون الثاني ثلاثمائة وأربعة وستين ، فإما أن تقول : كم من يوم مضى في هذا العام ؟ أو كم يوم بقي منه ؟ فأنت مع الزمن في عد تنازلي ، وكلما استيقظتَ صباحاً مضى يوم ، نقص عمره يومًا ، هذا هو العد التنازلي ، فربنا عزَّ وجل قال :
هؤلاء مستثنون من هذه الخسارة ، إذا كان لك في كل يوم تعليم الناس القرآن ، أو إنفاق المال ، أو عمل صالح ، فأنت لست في خسارة .
إذاً عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ)) .
(متفق عليه)
بالمناسبة ، رجل آتاه الله القرآن ، يقرأه قراءةً صحيحة ، شيء جميل ، إذاً هو يعلم الناس التجويد ، هذا عمل جيد جداً ، إنسان آتاه الله معانيه إذاً هو يعلم الناس تفسيره ، إنسان آتاه الله أن يطبقه ، وأن يدعو الناس إلى تطبيقه ، فالنبي عليه الصلاة والسلام جعل هذا الحديث مطلقاً: ((رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ)) .
من أين أُوتيت القرآن فأنت رابح ؛ قرأته فأنت رابح ، حفظته فأنت رابح ، جوَّدته فأنت رابح ، فهمته فأنت رابح ، درَست علومه فأنت رابح ، فسَّرته فأنت رابح ، طبَّقته فأنت رابح ((رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ)) .
المطلق على إطلاقه .
الحديث الثالث : عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((إِنَّ الَّذِي لَيْسَ فِي جَوْفِهِ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ)) .
(رواه الترمذي وقال : قَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ)
بيتٌ خربٌ مهجور ، تشبيهٌ رائع من النبي عليه الصلاة والسلام ، تجد كل ثقافته معلومات حياتية ؛ هكذا حدث ، هكذا قال فلان ، هكذا قيل ، بعيد عن القرآن الكريم ، أما إذا كان له وعاء مشحون بالمعلومات الدنيوية ، الأسعار ، الفُرَص ، المناسبات ، اللقاءات ، أخبار المجتمع ، أسعار البيوت ، أسعار الأراضي ، الأخبار العالمية ، يتَّبعها تماماً ، أما إذا أراد أن يقرأ آيةً واحدة لا يستطيع ، هذا بيتٌ خرب ، لأنه إذا جاء ملك الموت كل هذه المعلومات لا تعنينا ، هذه عملةٌ زائفة ليست رائجة عند الموت ، لكن الذي يقرأ القرآن ، ويفهمه ، ويحفظه ويفسِّره ، ويعمل به هذه عملة رائجة عند الموت ، فالنبي عليه الصلاة والسلام يحذرنا أن هذا الذي ليس في جوفه شيءٌ من القرآن كالبيت الخرب .
هناك موضوع إن شاء الله في الدرس القادم سنبحثه : أن الإنسان إذا قرأ القرآن ، وحفظه في مرحلةٍ من حياته ، ثم أهمله ، فهذا ذنبٌ عظيم ، فعلى الإنسان أن يراجع محفوظاته القرآنية من حين لآخر ، وإلا عاتبه الله عزَّ وجل ، وحاسبه ، وآخذه .
* * * * *
عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ((تَعَاهَدُوا هَذَا الْقُرْآنَ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنْ الْإِبِلِ فِي عُقُلِهَا)) .
(مسلم)
إذا أهمل الإنسان محفوظاته القرآنية ربما ضاعت منه ، ووقع في إثم شديد ، وله موضوعٌ آخر إن شاء الله تعالى نأخذه في درسٍ قادم .
* * * * *
وردني سؤال في الدرس الماضي أحب أن أجيب عنه كما وعدت السائلتين .
السؤال هو : هل هناك من مخالفةٍ شرعية لامرأةٍ تزجج حواجبها إذا كانت كثيفة ؟
هذا موضوع مطروح سابقاً ، وموضوعٌ يحتاج إلى تفصيل ، الإجابة عن هذا السؤال: من الغلو في الزينة التي حرمها الإسلام النمص ، والنمص هو نتف الشعر ، هذا من الغلو في الزينة التي حرمها الإسلام ، والمراد بالنمص إزالة شعر الحاجبين لترفيعهما أو تسويتهما ، لكن الذي أجاب عن هذا السؤال يتأكد حرمة النمص إذا كان النمص شعاراً للخليعات من النساء .
في عهد النبي عليه الصلاة والسلام كان بعض النسوة من الخليعات ، البغايا ، كان هؤلاء النسوة ينتفن حواجبهن ، فإذا فعلت امرأةٌ مسلمةٌ هذا الفعل فإنما تشبَّهت بهذه النسوة الخليعات المنحرفات البغايا ، لذلك تتأكد حرمة النمص إذا كان شعاراً للخليعات من النساء .
وقال بعض علماء الحنابلة : يجوز الحف ، فالحف شيء ، والنمص شيءٌ آخر ، حف الشارب ، وحف الحواجب يعني ترقيق الحواجب ، إذا كان في الحاجب كثافة تؤذي العين ، يقول بعض علماء الحنابلة : يجوز الحف ، فيقال : حفت المرأة وجهها أو زينته بإزالة الشعر.
وأخرج الطبري عن امرأة أبي إسحاق أنها دخلت على عائشة ، وكانت شابَّة فقالت : المرأة تحف جبينها لزوجها ؟ قالت : أميطي عنكِ الأذى ما استطعتِ ، عندنا مبدأ ثابت أن على المرأة أن تتزين لزوجها ، وهذا من أولى واجباتها ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال : ((فليتزوج فإنه أغض للبصر )) .
(من مسند الإمام أحمد )
ما معنى أغض للبصر ؟ أن الزوج إذا رأى امرأته بشكلٍ مُرضٍ ومقبول ، من غير شيء منفّر ، فهذا الوضع يعينه على غض بصره ، والمؤمن مأمور بعض بصره في كل الحالات ، ولكن الذي يعينه أكثر ، الذي يدعوه إلى غض بصره أن تكون زوجته كما يريد ، فإذا تزيَّنت المرأة لزوجها فقط بشكلٍ أنه يرضى عن زينتها ، فهذا عمل من صلب الدين للمرأة ، وهي مأمورةٌ به ، ومحاسبةٌ عن التقصير به ، لكن حينما تأتي امرأةٌ مسلمة لتقلِّد الخليعات من النساء ، المنحرفات ، الفاجرات ، السافرات، تقلد هذه المرأة المسلمة هؤلاء النسوة الخليعات ، فإن في هذا حطاً لمكانتها الإسلامية ، أما إذا شاع الشيء بين الناس ، وكان مقبولا عند العفيفات الطاهرات ، وكان يرضي زوجها ذلك ، وبدل أن تنتف الشعر ، إذا زججت حواجبها وحفتهم ، فهذا شيءٌ مقبولٌ كما جاء في المذهب الحنبلي .
عندنا كليات في الفقه ، من أساسيات الفقه أن المرأة مطالبةٌ بالتزين لزوجها .
* * *
سؤال رقم اثنين : صبغ الشعر ، ويتعلق بموضوع الزينة صبغ الشعر في الرأس ، فقد ورد أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى يمتنعون عن صبغ الشيب وتغييره ، ظناً منهم أن التجميل والتزيُّن ينافي التعبُّد والتدين ، والإسلام على عكس ذلك ، النبي عليه الصلاة والسلام قال : (( تنظفوا واستاكوا ، تطيبوا تزينوا لنسائكم)) .
( من الجامع الصغير : عن " علي ")
هذا مطلوب ، والمرأة أيضاً مطالبةٌ أن تتزين لزوجها ، وفي آية دقيقة بهذا المعنى :
( سورة البقرة : من آية " 228 " )
لها حقٌ عند الرجل كما له حقٌ عندها ، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ((إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ)) .
إذاً صبغ الشعر لا شيء عليه ، بل هو مستحبٌ ، وهذا الأمر للاستحباب كما يدل عليه فعل الصحابة ، فقد صبغ بعضهم كأبي بكرٍ وعمر ، وترك بعضهم مثل عليٍ وأبي بن كعب وأنس .
الشيء الذي أحب أن أذكره هو : أن الإنسان إذا صبغ شعره ليغشَّ مخطوبته ، أو أن المرأة إذا صبغت شعرها لتغشّ خاطبها ، فهذا الشيء نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام ، فإذا كان فيه عملية غش وتدليس فهذا لا يجوز ، أما إذا كانت عملية تزيين للزوج ، فمسموحٌ بصبغ الشعر للرجال والنساء معاً ، كما ورد في هذه الأحاديث .
* * * * *
والآن ، إلى بعض سيرة أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم
اليوم سيدنا أسيد بن حضير بطلٌ يوم السقيفة ، هذا رجل من زعماء الأنصار ، جلس أسيد بن حضير وسعد بن أبي معاذ ، وكانا زعيمي قومهما يتشاوران في أمر هذا الغريب الذي جاء من مكة يسفه دينهما ، ويدعو إلى دينٍ جديد ، مَن هو هذا الغريب الذي جاء من مكة يسفه دين أهل المدينة ، ويدعو إلى دينٍ جديد ؟ إنه مصعب بن عمير ، هذا الصحابي الجليل الذي أرسله النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة سفيراً له ، وهو أول سفيرٍ في الإسلام .
قال سعدٌ لأسيد : انطلق إلى هذا الرجل فازجره ، وحمل أسيدٌ حربته ، وأغذ السير إلى حيث كان مصعب في ضيافة أسعد بن زرارة من زعماء المدينة الذين سبقوا إلى الإسلام ، سيدنا مصعب بن عمير سفير النبي عليه الصلاة والسلام ، أوفده النبي إلى المدينة ليعلم الناس الإسلام ، ونزل في ضيافة أسعد بن زرارة ، وجاء الآن أسيد بن حضير ليزجره عن هذه الدعوة .
وعند مجلس مصعب وأسعد بن زرارة رأى أسيد جمهرةً من الناس ، تصغي في اهتمامٍ للكلمات الرشيدة التي يدعوهم بها إلى الله مصعب بن عمير ، وفاجأهم أسيد بغضبٍ وثورةٍ ، وقال له مصعب ـ دققوا في هذا اللفظ ، من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف ، المسلم لطيف ، المسلم له ظلٌ خفيف ، قال له مصعب :
ـ هل لك في أن تجلس فتستمع ، فإن رضيت أمراً قبلته ، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره .
كلام منطقي ، اسمع يا أخي ، الإنسان قبل أن يرفض عليه أن يسمع، قبل أن يهاجم عليه أن يتحقق ، قبل أن يشتم عليه أن يتبصر ، قال له : يا أخي اجلس فاستمع ، فإن رضيت أمراً قبلته ، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره ، كان أُسَيْد رجلا مستنير العقل ، ذكي القلب ، حتى لَقَّبه أهل المدينة بالكامل ، وهو لقبٌ كان يحمله أبوه من قبله ، فلما رأى مصعباً يحتكم به إلى المنطق والعقل ، غرس حربته في الأرض ، وقال لمصعب :
ـ لقد أنصت ، هاتِ ما عندك .
الموقف الآن ، سيدنا مصعب بن عمير كان منطقيًا ، وأديبًا ، ولطيفًا ، هكذا الدعوة إلى الله ، يا أخي استمع ، قبل أن تهاجم اقرأ ، قبل أن ترفض استمع إلى هذا الشريط ، تعال استمع إلى هذا الدرس ، اسمع يا أخي قبل أن تحكم غيابياً ، قبل أن تتهم ، قبل أن تهاجم ، قبل أن تجرِّح ، قبل أن تهرف في ما لا تعرف تحقق ..
( سورة الحجرات : من آية " 6 " )
قال له : والله لقد أنصت ، هاتِ ما عندك .
وراح مصعب يقرأ عليه من القرآن ، ويفسر له دعوة الدين الجديد ، الدين الحق الذي أُمِرَ محمدٌ عليه الصلاة والسلام بتبليغه ، يقول الذين حضروا هذا المجلس : والله لقد عرفنا في وجه أُسيد الإسلام قبل أن يتكلم، عرفناه في إشراقه وتسهُّله .
أحيانًا تجد وجهًا يتألق إذا سمع آية ، تفسير آية ، تفسير حديث ، تأثر فتألق الوجه ، أصبحت العينان زئبقيتين ، هناك إشراق بوجهه ، وابتسامة الرضا ، فقالوا : والله لقد عرفنا في وجه أسيد الإسلام قبل أن يتكلم ، عرفناه في إشراقه وتسهله ، ولم يكد مصعب ينهي حديثه حتى صاح أسيدٌ مبهوراً : ما أحسن هذا الكلام ، وما أجمله .
يا إخوان ، الحق مثل الغذاء تماماً ، الحق كلام ربنا عزَّ وجل ، القرآن مأدبة الله عزَّ وجل ، فإذا أكل إنسان من مأدبة الله قال :
ـ والله ما أحسن هذا الكلام وأجمله ، كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين ؟ ماذا أفعل ؟ انشرح قلبه .
ـ فقال له مصعب : تطهر بدنك وثوبك ، وتشهد الشهادة الحق ، ثم تصلي .
طبعاً الصحابي الجليل سعد بن معاذ كان على دين آبائه ، فأرسل أسيدٌ بن حضير كي يزجر سيدنا مصعب بن عمير عن دعوته ، وهو ينتظره ، الآن رجع أسيد بن حضير إلى سعد بن معاذ ، نظر إلى وجهه ، وقال : أقسم لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به ، قبل أن يتكلم ، قبل أن ينطق بكلمة وجد وجهًا مشرقًا فيه راحة ، فيه طمأنينة ، لأن الحق مسعد ، فقد ذهب حانقاً ، حاقداً ، متألماً فيه بغيضة ، وعاد بوجه مشرق ، قال :
ـ والله أقسم لقد جاءكم أسيد يغير الوجه الذي ذهب به .
ـ فقال أسيد : أجل . نعم .
هناك شيء بسيدنا أسيد ، كان ذكيًّا جداً ، لو قال لسيدنا سعد بن معاذ : اذهب فأسلم كما أسلمت ، ربما لا يرضى ، قد يحنق ، قد يهاجمه ، فأراد بأسلوبٍ ذكي أن يجره إلى سيدنا مصعب ، الآن أراد سيدنا أسيد من سعد بن معاذ أن يجره إلى سيدنا مصعب ، وكان مصعب ـ كما ذكرنا ـ ينزل ضيفاً على أسعد بن زرارة ، وأسعد بن زرارة هو ابن خالة سعد بن معاذ ، هناك قال أسيد لسعد : لقد حُدِّثت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه ، وهم يعلمون أنه ابن خالتك ، يريد سحبه لعند مصعب .
وقام سعدٌ تقوده الحمية والغضب ، وأخذ الحربة ، وسار مسرعاً إلى حيث أسعد ومصعب ومن معهما من المسلمين ، ولما اقترب من المجلس لم يجد ضوضاءً ، ولا لغطاً ، وإنما هي السكينة تغشى جماعةً يتوسَّطهم مصعب بن عمير يتلو آيات الله في خشوع ، وهم يصغون إليه في اهتمامٍ عظيم ، هناك أدرك الحيلة التي نسجها له أسيد لكي يحمله على السعي إلى هذا المجلس .
أحياناً ـ هذه لها معنى ـ يكون الإنسان متفانيًا في الحق ومندفعًا ، لكن الله ما آتاه القدرة على إقناع الآخرين ، القدرة على الإقناع ، القدرة على البيان ، القدرة على التفصيل ، التوضيح هذه قدرة الله عزَّ وجل يؤتيها من يشاء من عباده ، فإذا أراد المسلم أن يهدي الآخرين وليس عنده إمكانية ، عنده أسلوب واحد هو أن يأتي بهم إلى المسجد ، أقنعه أن يأتي ليصلي معك العشاء في المسجد أو المغرب ، فسيدنا أسيد ماذا فعل مع سيدنا سعد ؟ جلبه إلى المسجد ، وهنا أدرك الحيلة التي نسجت له ، ولقد صدقت هذه الفراسة ، فكما كاد سعد يسمع حتى شرح الله له صدره للإسلام ، وأخذ مكانه بسرعةٍ بين المؤمنين .
سيدنا مصعب جاء للمدينة سفيرًا ، آمن به جماعةٌ كُثُر ، وهؤلاء الجماعة أضيف إليهم سيِّدان من سادة الأنصار ؛ أسيد بن خضير ، وسعد بن معاذ .
عندنا مشكلة ، هذا ابن أبيّ زعيم المنافقين ، هذا الذي كره النبي عليه الصلاة والسلام ، وتحدث عنه بما لا يرضي الله عزَّ وجل ، وكان خصماً عنيداً له ، السبب أن هذا الرجل كان على وشك أن يتوَّج ملكاً على المدينة ، فلما جاء النبي عليه الصلاة والسلام ذهب ملكه ، فصار عنده حقد ، أنا أعجبني من موقف سيدنا أسيد أنه لما قال هذا المنافق الكبير أو زعيم المنافقين : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، قال أسيد : فأنت والله يا رسول الله تخرجه منها إن شاء الله ، هو والله الذليل وأنت العزيز .
كأنه طمأن النبي ، والتمس له العذر ، قال له : يا رسول الله ارفق به ، فو الله لقد جاءنا الله بك ، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه على المدينة ملكاً ، فهو يرى أن الإسلام قد سلبه ملكاً ، هذا الكلام لطيف مع رسول الله ، يعني هذا الرجل يعاديك ، وأنت الأعز ، وهو الأذل ، لكن له وضع نفسي خاص ، هذا كان على وشك أن يكون ملكًا ، فلما جاء الله بك خسر ملكه بهذا الإسلام ، كأنه أعطاه تبريرًا لطيفًا ، أو أعطاه شيئًا من العذر بهذا الموقف المعادي ، فالإنسان ليس له حق أن يؤجج ، له الحق أن يبرر ، المسلم يبرر ولا يؤجج ، عارضك شخص ، أو تكلم عليك ، وليس له حق في الكلام عليك ، هذا يسيء ، أنت أججته أكثر ، هذا له وضع خاص ، مزعوج من قضية ، إذا وجدت خصومة فالمفروض أن تهفف ولا تكبر ، تصغر الأمر ، هناك أشخاص يكبرون ، وأشخاص يخففون ، أما هذا الموقف فقد أعجبني ، قال : يا رسول الله ارفق به ، فو الله لقد جاءنا الله بك ، وإن قومك لينظمون له الخرز ليتوجوه على المدينة ملكاً ، فهو يرى أن الإسلام قد سلبه ملكاً .
آخر موقف لهذا الصحابي الجليل ، لما صار الخلاف بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام على الخلافة ، بعض الأنصار طالبوها لأنفسهم ، وبعضهم طالبوها لسيدنا الصديق ، ماذا قال أسيد ؟ خاطب الأنصار فقال : تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين ، فخليفته إذاً ينبغي أن يكون من المهاجرين ، ولقد كنا أنصار رسول الله عليه الصلاة والسلام ، وعلينا اليوم أن نكون أنصار خليفته ، وكانت كلماته برداً وسلاماً في هذا المجلس ، لذلك سماه علماء السيرة ( بطل يوم السقيفة ) ، بهذه الطريقة اجتمع الشمل ، والتأم الجميع ، وبايعوا سيدنا الصديق . قال : أنتم الأنصار يجب أن تكونوا أيضاً أنصار خليفة رسول الله .
وتوفاه الله عزَّ وجل ، وقال وهو على وشك الموت : اصبروا حتى تلقوني على الحوض ، كان في ساعة بشرى من الله عزَّ وجل .
والحمد لله رب العالمين
سحر العيون- نور عيني
- عدد المساهمات : 2
نقاط : 6
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 30/06/2010
مواضيع مماثلة
» الرجاء قراءة الموضوع ( روميو العرب )
» بدأ التسجيل في الدورة المكثفة لحفظ القرآن الكريم بالمسجد الن
» الباب الخامس من كتاب تفسير الأحلام لابن سيرين في تأويل سور القرآن العزيز
» بدأ التسجيل في الدورة المكثفة لحفظ القرآن الكريم بالمسجد الن
» الباب الخامس من كتاب تفسير الأحلام لابن سيرين في تأويل سور القرآن العزيز
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى