الحج و مناسكه
صفحة 1 من اصل 1
الحج و مناسكه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ، ونستعين به ، ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وآل بيته الطيبين الطاهرين ، أمناء دعوته ، وقادة ألويته ، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين .
أيها الأخوة الكرام ، في الإسلام فضلاً عن العقائد التي تعد أساس الدين ، في الإسلام عبادات تنظم علاقة الإنسان بربه ، وفي الإسلام معاملات تنظم علاقة الإنسان بأخيه الإنسان ، وإذا صحت العبادات ارتقت المعاملات ، وكان ارتقاء المعاملات مؤشراً على صحة العبادات ، والعبادات تهدف أول ما تهدف إلى السمو بالإنسان نفساً ، وقولاً ، وعملاً ، عن طريق إحكام الصلة بالله عز وجل ، والاهتداء بهديه ، والتنعم بقربه ، والتقلب في رحمته ، والارتشاف من عذب شرابه ، وقطف ثمار فضله ، ومن هذا المنطلق شُرعت العبادات الشعائرية ، كالصلاة والصيام والحج .
الحج هو أحد أركان الإسلام الخمسة ، وهو عبادة مالية ، بدنية ، شعائرية، وهو تلك الرحلة الفريدة في عالم الأسفار ، ينتقل فيها المسلم ببدنه وقلبه إلى البلد الأمين ، الذي أقسم الله به في القرآن الكريم ، يذهب إلى هناك ليقف في عرفات ، وليطَّوَّف ببيت الله الحرام ، الذي جعله الله رمزاً لتوحيده ، ولوحدة المسلمين ، ففرض على المسلم أن يستقبله كل يوم خمس مرات في صلواته ، قال تعالى :
( سورة البقرة )
ثم فرض عليه أن يتوجه إليه بشخصه ، فرض علينا أن نتوجه إليه في صلواتنا خمس مرات في اليوم ، ثم فرض علينا أن نتوجه بأشخاصنا وأن نطوف به في العمر مرة واحدة .
إن هذا البيت العتيق هو أول بيت وُضع للناس ، هو أول بيت أُقيم في الأرض لعبادة الله ، ومجدِّدُ بنائه الخليل إبراهيم وولده الذبيح إسماعيل ، وهما الرسولان الكريمان اللذان جعل الله من ذريتهما هذه الأمة المسلمة ، واستجاب دعوتهما الخالصة ، وهما يُشيدان هذا البناء العتيد ، قال تعالى :
( سورة البقرة )
قال صلى الله عليه وسلم :
(( أنا دعوة إبراهيم وبُشرى عيسى بن مريم )).
[ابن سعد عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر]
أيها الأخوة الكرام ، والحج برهان عملي يقدمه المؤمن لربه ولنفسه على أن تلبية دعوة الله بدافع محبته ، وابتغاء رضوانه ، أفضل عنده من ماله ، وأهله ، وولده ، وعمله ، ودياره ، ومما تتميز هذه العبادة أنها تحتاج إلى تفرغ تام ، فلا تؤدى إلا في بيت الله الحرام .
إذاً لا بد من مغادرة الأوطان ، وترك الأهل والخلان ، وتحمُّل مشاقِّ السفر، والتعرض لأخطاره ، وإنفاق المال في سبيل رضوانه ، وإذا صحّ أن ثمن هذه العبادة باهظ التكاليف فإنه يصحُّ أيضاً أن ثمرة هذه العبادة باهرة النتائج ، حيث قال المصطفى صلى الله عليه وسلم :
((من حجَّ فلم يرْفُثْ ولم يفْسُقْ رَجَعَ من ذنوبه كيومَ ولدته أمه)) .
[ متفق عليه أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]
وقال أيضاً :
(( الحج يهدم ما قبله )) .
[مسلم عن عمرو بن العاص]
وقال أيضاً :
(( الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة )) .
[أحمد وابن خزيمة والطبراني في الأوسط والحاكم والبيهقي عن جابر]
وقال أيضاً :
(( الحجاج والعُمَّار وفد الله ، إن دعوه أجابهم ، وإن استغفروه غفر لهم )) .
[أخرجه ابن ماجة في المناسك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم :
(( تابعوا بين الحج والعمرة ، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب )) .
[رواه الترمذي والإمام أحمد عن ابن مسعود ]
و (( أن النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله )) .
[أخرجه أحمد في المسند عن بريدة]
1 ـ استجابة لنداء ودعوة يقعان في قلب المؤمن أن خلِّ نفسك وتعال :
يذهب المسلم إلى بيت الله الحرام ، ويُخلِّف في بلدته هموم المعاش والرزق ، هموم العمل والكسب ، هموم الزوجة والولد ، وهموم الحاضر والمستقبل ، وبعد أن يُحرم من الميقات يبتعد عن الدنيا كلياً ، ويتجرَّد إلى الله عز وجل ويقول : " لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك " .
هذه التلبية كأنها استجابة لنداء ودعوة يقعان في قلبه ، أن يا عبدي خلِّ نفسك وتعال ، تعال يا عبدي ، لأريحك من هموم كالجبال ، تجثم على صدرك ، تعال يا عبدي لأطهرك من شهوات تُنغِّص حياتك .
إلى متى أنت باللذات مشغول وأنت عن كل ما قدمته مسؤول ؟
***
تعالَ يا عبدي ، وذق طعم محبتي .. تعال يا عبدي ، وذق حلاوة مناجاتي .
لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك .
تعال يا عبدي لأريك من آياتي الباهرات ، تعال لأريك ملكوت الأرض والسماوات ، تعال لأضيء جوانحك بنوري الذي أشرقت به الظلمات ، تعال لأعمر قلبك بسكينة عزت على أهل الأرض والسماوات ، تعال لأملأ نفسك غنىً ورضىً شقيتْ بفقدهما نفوس كثيرة ، تعال يا عبدي لأخرجك من وحول الشهوات إلى جنات القربات ، تعال لأنقذك من وحشة البعد إلى أُنس القرب ، تعال لأخلصك من رُعب الشرك وذل النفاق إلى طمأنينة التوحيد وعز الطاعة .
2 ـ نقل العبد من الدنيا المحدودة و الهموم الطاحنة إلى شرف الذكر و جنة القرب :
" لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ".
تعال يا عبدي لأنقلك من دنياك المحدودة ، ومن عملك الرتيب ، ومن همومك الطاحنة إلى آفاق معرفتي ، وشرف ذكري ، وجنة قربي ، تعال يا عبدي وحُطَّ همومك ، ومتاعبك ، ومخاوفك عندي ، فأنا أضمن لك زوالها ، تعال يا عبدي واذكر لي حاجتك ، وأنت تدعوني فأنا أضمن لك قضاءها :
" إن بيوتي في الأرض المساجد ، وإن زوارها هم عُمارها ، فطوبى لعبد تطهَّر في بيته ثم زارني ، وحقَّ على المزور أن يكرم الزائر " ..
فكيف يكون إكرامي لك إذا قطعت المسافات ، وتجشمت المشقات ، وتحملت النفقات ، وزرتني في بيتي الحرام ، ووقفت بعرفة تدعوني ، وتسترضيني .
" لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك".
تعال يا عبدي ، وزرني في بيتي ، لتنزاح عنك الهموم ، ولتعاين الحقائق ولتستعد للقاء .
((إن عبدًا أصححت له جسمه وأوسعت عليه في الرزق فأتى عليه خمس حجج لا يأتي إلىَّ فيهن لمحروم )) .
[ أبو يعلى عن أبي هريرة]
3 ـ الطواف حول الكعبة و معاهدة الله على ترك المعاصي و الإقبال على الطاعات :
تعال يا عبدي ، وطُف حول الكعبة طواف المحب حول محبوبه ، واسعَ بين الصفا والمروة سعي المشتاق لمطلوبه ، تعال يا عبدي ، وقبِّل الحجر الأسود ، يميني في الأرض ، واذرُف الدمع على ما فات من عمر ضيعته في غير ما خُلقت له ، وعاهدني على ترك المعاصي والمخالفات على الإقبال على الطاعات والقربات ، وكن لي كما أُريد لأكن لك كما تريد ، كن لي كما أريد ولا تعلمني بما يصلحك ، فإذا سلَّمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تُسلِّم لي فيما أُريد أتعبتك فيما تريد ، ثم لا يكون إلا ما أريد ، خلقت لك ما في الكون من أجلك فلا تتعب ، وخلقتك من أجلي فلا تلعب ، فبحقي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك عما افترضته عليك .
4 ـ التعرض لنفحة من نفحات الله يوم عرفات تطهر القلب من كل درن و شهوة :
" لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك ".
تعال يا عبدي إلى عرفات ، يوم اللقاء الأكبر ، تعال لتتعرض لنفحة من نفحاتي تطهر قلبك من كل درن وشهوة ، وتُصفي نفسك من كل شائبة وهمٍّ ، هذه النفحات تملأ قلبك سعادة وطمأنينة ، وتشيع في نفسك سعادة لو وُزِّعت على أهل بلد لكفتهم ، عندئذ لا تندم إلا على ساعة أمضيتها في القيل والقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال .
تعال لعرفات يوم عرفة ، لتعرف أنك المخلوق الأول من بين كل المخلوقات ، ولك وحدك سخرت الأرض والسماوات ، وأنك حُمِّلت الأمانة التي أشفقت منها الجبال والأرض والسماوات ، وأني جئت بك إلى الدنيا لتعرفني ، وتعمل عملاً صالحاً يؤهلك لجنة الخلد .
تعال إلى عرفات يوم عرفة ، لتعرف أن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا ، وعملوا الصالحات ، وتواصوا بالحق ، وتواصوا بالصبر ، وأنك إن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فُتُّك فاتك كلُّ شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء .
بعد أن يذوق المؤمن في عرفات ، من خلال دعائه ، وإقباله ، واتصاله ، وروعة اللقاء ، وحلاوة المناجاة ، ينغمس في لذة القرب ، عندئذ تصغر الدنيا في عينيه ، وتنتقل من قلبه إلى يديه ، ويصبح أكبر همه الآخرة فيسعى إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر ، وقد يُكشف للحاج في عرفات أن كل شيء ساقه الله إليه مما يكرهه هو محض عدل ، ومحض فضل ، ومحض رحمة ، ويتحقق من قوله تعالى :
( سورة البقرة )
وبعد أن يفيض الحاجُّ من عرفات ، وقد حصلت له المعرفة واستنار قلبه ، وصحت رؤيته ، يرى أن السعادة كلها في طاعة الله ، وأن الشقاء كله في معصية الله ، وأنه عندئذ يرى عداوة الشيطان ، وكيف أنه يَعِدُ أولياءه بالفقر إذا أنفقوا ، ويخوفهم مما سوى الله ، إذا أنابوا وتابوا ، ويعدهم ، ويمنيهم ، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً ، قال تعالى :
( سورة إبراهيم )
عندئذ يُعبِّر الحاج عن عداوته للشيطان تعبيراً رمزياً برمي الجمار ، ليكون الرمي تعبيراً مادياً ، وعهداً موثقاً في عداوة الشيطان ، ورفضاً لوساوسه وخطراته .
يقول الإمام الغزالي رحمه الله تعالى : " اعلم أنك في الظاهر ترمي الحصى في العقبة ، وفي الحقيقة ترمي بها وجه الشيطان ، وتقصم ظهره ، ولا يحصل إرغام أنفه إلا بامتثالك أمر الله تعالى " .
حينما يتجه الحاج لسوق الهدي ، ونحر الأضاحي ، وكأن الهدي هدية إلى الله تعبيراً عن شكره لله على نعمة الهدى ، التي هي أثمن نعمة على الإطلاق ، وكأن ذبح الأضحية ذبح لكل شهوة لا ترضي الله ، ورغبة تبعد عن معصية الله ، والتضحية بالغالي والرخيص ، والنفس والنفيس في سبيل مرضاة رب العالمين ، قال تعالى :
( سورة الحج )
ثم يكون طواف الإفاضة تثبيتاً لهذه الحقائق ، وتلك المشاعر ، ثم يطوف طواف الوداع لينتقل منه إلى بلده إنساناً آخر استنار قلبه بحقائق الإيمان ، وأشرقت نفسه بأنوار القرب ، وعقد العزم على تحقيق ما عاهد الله عليه ، وإذا صحَّ أن الحج رحلة إلى الله ، فإنه يصحُّ أيضاً أنها الرحلة قبل الأخيرة ، لتجعل الرحلة الأخيرة مُفضية إلى جنة عرضها السماوات والأرض .
وبعد أن ينتهي الحجاج من مناسك الحج يتجهون إلى المدينة المنورة ، التي هي من أحب بلاد الله إلى الله ، يتجهون إليها لزيارة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم ، فقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي )) .
[رواه البيهقي بلفظ " كمن زارني في حاتي " وضعفه وقال : إن طرقه كلها لينة لكن يقوي بعضها بعضاً ، وانظر الفوائد المجموعة للشوكاني ص131] [أخرج الدار قطني عن ابن عمر]
وقد عُلِّقت في مكان بارز من الحجرة الشريفة الآية الكريمة :
(سورة النساء)
وقد أشار القرطبي إلى أن الآية تصدق على زيارة النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته ، وليس هذا لغير النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد أورد القاسمي في تفسيره أن في هذه الآية تنويهاً بشأن النبي صلوات الله وسلامه عليه ، فالرجل حينما يظلم نفسه بمعصية ربه من خلال خروجه عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وجب عليه أن يستغفر الله ، وأن يعتذر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا تتم التوبة إلى الله ولا تُقبل إلا إذا ضمَّ إلى استغفار الله استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم عين طاعة الله ، وإرضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عين إرضاء الله ، يستنبط هذا من إفراد الضمير في قوله تعالى :
(سورة التوبة)
بضمير المفرد الغائب .
ولا أدل على ذلك من قول الله تعالى :
(سورة النساء)
ومن قوله تعالى :
(سورة آل عمران)
أيها الأخوة المؤمنون ، لعل سرَّ السعادة التي تغمر قلب المسلم حينما يزور مقام النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما إن يرى معالم المدينة حتى يزداد خفقان قلبه ، وما إن يبصر الروضة الشريفة حتى يجهش بالبكاء ، وعندئذ تُصبح نفس الزائر صافية من كل كدر ، نقية من كل شائبة ، سليمة من كل عيب ، منتشية بحبها له صلى الله عليه وسلم وقُربها منه ، وهذه حقيقة الشفاعة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله :
(( من جاءني زائراً ، لم تنزعه حاجة إلا زيارتي كان حقاً على الله أن أكون له شفيعاً يوم القيامة )) .
[رواه ابن خزيمة في صحيحه والبزار والدار قطني عن ابن عمر رضي الله عنهما ]
وإذا شئت الدليل القرآني على ما يشعر به المسلم من سكينة وسعادة حينما يتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو أو بآخر ، فهو قوله تعالى :
( سورة التوبة )
وقال الرازي في تفسيره : " إن روح محمد صلى الله عليه وسلم كانت روحاً قوية، صافية ، مشرقة ، باهرة ، لشدة قربه من الله ، ولأن قلبه الشريف مهبط لتجليات الله جلّ وعلا ، فإذا ذكر أصحابه بالخير والود ، أو ذكره المؤمنون بالحب والتقدير فاضت آثار من قوته الروحانية على أرواحهم ، فأشرقت بهذا السبب نفوسهم ، وصفت سرائرهم "، وهذه المعاني تفسر قوله تعالى :
( سورة الأحزاب )
أيها الأخوة الكرام ، رُوي أن بلالاً ـ رضي الله عنه ـ سافر إلى الشام ، وطال به المقام ، بعد وفاة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم ، ولقد رأى وهو في منامه وهو في الشام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له : ما هذه الجفوة يا بلال ؟ أما آن لك أن تزورني ؟ فانتبه حزيناً ، وركب راحلته ، وقصد المدينة ، فأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يبكي عنده كثيراً ، فأقبل الحسن والحسين ـ رضي الله عنهما ـ وجعل يضمهما ، ويقبلهما فقالا له : نشتهي أن نسمع أذانك الذي كنت تؤذن به لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصرّا عليه ، فصعد وعلا سطح المسجد ، ووقف موقفه الذي كان يقفه ، ولما بدأ بقوله : الله أكبر وتذكر أهل المدينة ، وعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجَّت المدينة ، وخرج المسلمون من بيوتهم فما رأيت يوماً أكثر باكياً وباكيةً في المدينة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك اليوم .
لقد صدق أبو سفيان رضي الله عنه ـ طبعاً أسلم ـ حينما قال : " ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً " .
وهذه الحقيقة ينبغي أن تنسحب على كل مؤمن إلى يوم القيامة ، يقول صلى الله عليه وسلم :
(( لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ )) .
[ متفق عليه عَنْ أَنَسٍ]
أقول قولي هذا ، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ، فاستغفروه يغفر لكم ، فيا فوز المستغفرين ، أستغفر الله .
* * *
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله بيته الطيبين الطاهرين ، وصحبه أجمعين .
أيها الأخوة الكرام ، لقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع خطبة جامعة مانعة ، تضمنت مبادئ إنسانية سيقت في كلمات سهلة سائغة ، كيف لا وقد أوتي النبي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم ، فلقد استوعبت هذه الخطبة جملة من الحقائق التي يحتاجها العالم الشارد المعذب ليرشد ويسعد ، قال تعالى :
( سورة طه )
إن الله جل وعلا ربى محمداً صلى الله عليه وسلم ليُربي به العرب ، وربى العرب بمحمد صلى الله عليه وسلم ليُربي بهم الناس أجمعين ، هكذا أراد الله لهم ، قال تعالى:
( سورة الحج )
1 ـ أن الإنسانية متساوية القيمة في أي إهاب تبرز وعلى أية حالة تكون :
أيها الأخوة الكرام ، من المبادئ التي انطوت عليها خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، أن الإنسانية متساوية القيمة في أي إهاب تبرز ، وعلى أية حالة تكون، وفوق أي مستوى تتربع ، قال النبي عليه الصلاة والسلام :
(( أيها الناس ، إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد ، كلكم لآدم ، وآدم من تراب ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، ليس لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى ، ألا هل بلَّغت ؟ اللهم فاشهد )) .
[من خطبة الوداع راجع شرح النووي على صحيح مسلم ، والبداية والنهاية لابن كثير]
2 ـ النفس الإنسانية ما لم تكن مؤمنة بربها وبوعده ووعيده لن ينفعها إيمانها شيئاً :
بند آخر ، النفس الإنسانية ما لم تكن مؤمنة بربها ، مؤمنة بوعده ووعيده ، مؤمنة بأنه يعلم سرَّها وجهرها ، لن ينفعها إيمانها شيئاً ، لأن النفس الإنسانية تدور حول أثرتها ومصلحتها ، ولا تُبالي بشيء في سبيل غايتها ربما بنــت مجدها على أنقاض الآخرين ، ربما بنت غناها على فقرهم ، ربما بنت عزها على ذلهم ، ربما بنت حياتها على موتهم ، لذلك قال الرسول الكريم في خطبة حجة الوداع :
(( أيها الناس إن دماءكم وأموالكم ، وأعراضكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم إنما المؤمنون إخوة ، لا يحل لامرئ مالُ أخيه إلا عن طيب نفس منه ، وإنكم ستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم ، ألا هل بلغت ؟ اللهم فاشهد )) .
سبعمئة ألف دعوى في قصر العدل ، اغتصاب بيوت ، اغتصاب شركات ، اغتصاب أراض ، لا يحل لامرئ مالُ أخيه إلا عن طيب نفس منه .
3 ـ المال قوام الحياة وينبغي أن يكون مُتداولاً بين كل الناس :
بند ثالث من بنود خطبة حجة الوداع ، المال قوام الحياة ، وينبغي أن يكون مُتداولاً بين كل الناس ، وأنه إذا ولد المالُ المال من دون جهد حقيقي يسهم في عمارة الأرض، وإغناء الحياة ، تجمَّع في أيدٍ قليلة ، وحُرمت منه الكثرة الكثيرة ، عندها تضطرب الحياة ، ويظهر الحقد ، ويُلجأ إلى العنف ، ولا يلد العنف إلا العنف ، والربا يسهم بشكل أو بآخر في هذه النتائج المأساوية التي تعود على المجتمع البشري بالويلات ، تسعون بالمئة من ثروات الأرض يملكها عشرة بالمئة من سكان الأرض ، وتسعون بالمئة من سكان الأرض لا يملكون إلا عشرة بالمئة من ثروات الأرض ، هذا التفاوت المخيف في مستوى المعيشة بين دول الشمال ودول الجنوب لا يمكن أن يسلم من العنف ، ولا يؤدي هذا إلا إلى مزيد من العنف لأن العنف يلد العنف ، هذه سلسلة لا تنتهي :
(( ألا وإن كل رباً في الجاهلية موضوع ، وإن لكم رؤوس أموالكم لا تُظلمون ولا تَظلمون ، قضى الله أن لا رباً وأول رباً أبدأ فيه - أي أسقطه - ربا عمي العباس بن عبد المطلب )) .
4 ـ النساء شقائق الرجال :
البند الرابع ، النساء شقائق الرجال ، ولأن المرأة مساوية للرجل تماماً من حيث إنها مكلفة كالرجل بالعقائد ، والعبادات ، والمعاملات ، والأخلاق ، مساوية له من حيث استحقاقُها الثواب والعقاب ، وأنها مساوية له تماماً في التشريف ، والتكريم ، والمسؤولية ، لذلك قال صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع :
(( اتقوا الله بالنساء واستوصوا بهن خيراً ، ألا هل بلغت ؟ ألا هل بلغت ؟ ألا هل بلغت ؟ اللهم فاشهد ...)) .
ثم يُتابع خطبته فيقول :
(( أيها الناس لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ، أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يُعبد في أرضكم هذه ، ولكنه رضي أن يُطاع فيما سوى ذلك مما تحقرونـه من أعمالكم ، فاحذروه على دينكم ، وقد تركتُ فيكم شيئين ما إن اعتصمتم بهما فلـن تضلوا أبداً ، كتاب الله وسنة رسوله ، وإنكم ستسألون عني فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت ، وأديت ، ونصحت فجعل يُشير بإصبعه المسبحة إلى السماء ثم إلى الناس وهو يقول : اللهم فاشهد )) .
أيها الأخوة الكرام ، الطرف الآخر يتعاون تعاوناً مذهلاً ، وفي تاريخه حروب لمئتي عام ، يتعاون مع بعضه بعضاً وبينه وبين الآخر خمسة بالمئة من القواسم المشتركة ، والمسلمون يقتتلون والدماء تسيل فيهم كما ترون وبينهم خمسة وتسعون بالمئة قواسم مشتركة، هذه وصمة عار في حق الأمة ، لذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام :
(( لا تَرْجِعُوا بَعْدي كُفَّاراً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقابَ بَعْض )) .
[ رواه البخاري ومسلم عن جرير بن عبد اللّه رضي اللّه عنه ]
سمى الفتن بين المسلمين التي تنتهي بالقتل وإسالة الدماء سماها النبي عليه الصلاة والسلام كفراً ، لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض .
فيا أيها الأخوة الكرام ، كلمة أقولها لكم من أعماق أعماقي طرح أي قضية خلافية الآن يعد جريمة بحق هذه الأمة ، لأن الغرب وضعنا جميعاً في سلة واحدة ، وينبغي أن نقف جميعاً في خندق واحد ، هناك قواسم مشتركة بين فئات المسلمين لا يعلمها إلا الله ، وبإمكانك أن تدعو إلى الله في القواسم المشتركة خمسين عاماً دون أن تثير أية مشكلة ، لذلك ابحثوا عن القواسم المشتركة ، ابحثوا عن التوافق ، ابحثوا عن أن هذه الأمة إلهها واحد ، ونبيها واحد ، وقرآنها واحد ، وآلامها واحدة ، وآمالها واحدة ، وأعداؤهم طرف آخر يكيد لهم ليفقرهم ، وليضلهم ، وليفسدهم ، وليذلهم ، وليبيدهم .
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ، ولا يقضى عليك ، وإنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك و نتوب إليك ، اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت ، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام ، وأعز المسلمين ، انصر المسلمين في كل مكان ، وفي شتى بقاع الأرض يا رب العالمين ، اللهم أرنا قدرتك بأعدائك يا أكرم الأكرمين .
والحمد لله رب العالمي
about ... me- رئيس المنتدى
- عدد المساهمات : 123
نقاط : 1006855
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 19/05/2010
العمر : 34
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى