قصة سيدنا ثابت بن قيس
صفحة 1 من اصل 1
قصة سيدنا ثابت بن قيس
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ... بمناسبة حلول عيد الأضحى المبارك ، الشيء الذي ألفه المسلمون في هذا العيد هذه الزيارات فيما بينهم ، فبحثت عن بابٍ في رياض الصالحين يتناسب مع عيد الأضحى المبارك ، فما وجدت من بابٍ أقرب من باب إكرام الضيف ، ومن باب صلة الرحم .
فالله سبحانه وتعالى يقول :
(سورة الذاريات)
كما هي العادة ، كل باب يعقده الإمام النووي رحمه الله تعالى ، يفتتحه بالآيات الكريمة التي لها علاقةٌ بالباب ، فالآية التي تناسب إكرام الضيف قوله تعالى :
(سورة الذاريات)
) أهله ) هنا بمعنى زوجته وأولاده ، ومعنى كلمة : راغ : أسرع ، هل هناك معنى آخر لـ : راغ ؟ علماء اللغة قالوا : أسرع خفيةً ، لو وقف إنسان من بيننا وركض ، هذا الفعل ليس من معناه راغ ، ركض على مرأى من الحاضرين ، أما راغ من معانيها أنه أسرع مختفياً ، إذاً هذا الذي يسأل ضيفه : أتحب أن تأكل حتى أحضر لك الطعام ، خالف آداب الضيافة ، إذا أردت أن تكرمه فلا داعي أن تسأله ، إنك إذا سألته لن يرضى ، وقد يكون في أعلى درجات الجوع ، ويقول لك : لا .
أما راغ فتعني أنه تسلل ، أو أسرع مختفياً من ضيوفه ، كي يعطي إشارة إلى أهله لإعداد الطعام ، قال : هذا أول أدب من آداب الضيافة ، فلا ينبغي أن تقول للضيف : هل تأكل ، لعلك لمْ تأكل ، لعلك أكلت ، قل لي : ما شأنك ؟ ماذا تحب أن تأكل ، حتى أحضر لك الطعام ، ويحدث جلبة وضجيجًا ، لا ، هذا ليس من كرم الضيافة ، من تمام كرم الضيافة ألا تشعر الضيف أنك ذاهب لإعداد الطعام .
(سورة الذاريات)
أولاً : هذه الفاء (الأولى والثانية ) تفيدان الترتيب على التعقيب ، طبعاً الواو تفيد العطف ، وثم تفيد الترتيب على التراخي ، لو أن ربنا عز وجل قال : فراغ إلى أهله ، ثم جاء بعجل ثمين ، أي جاء بعد ساعتين ، أو ثلاثا ، أيضاً من آداب الضيافة سرعة إعداد الطعام ..
(سورة الذاريات)
خرج ، فلم يلبث إلا قليلاً حتى عاد بالطعام ، إذاً عدم استئذان الضيف لإعداد الطعام ، وعدم الإطالة بإعداد الطعام ، هذا أدب ثانٍ من آداب الضيافة ..
(سورة الذاريات)
كما قال عليه الصلاة والسلام : ((المؤمن كالنحلة لا يأكل إلا طيباً ولا يطعم إلا طيباً)).
( من شرح الجامع الصغير )
عندنا ثلاثة آداب : عدم إعلام الضيف ، والسرعة في الخروج لإعداد الطعام ، وسرعة إعداد الطعام ، وتهيئة الطعام الذي يروق لك ، تطيب به نفسك ، أحياناً الضيف يستحي ، المائدة طويلة جداً ، هناك صحن يحب أن يأكل منه ، ربنا عز وجل أعطانا أدبًا رابعًا :
( سورة الذاريات )
يجب أن تلاحظ توزيع الطعام على المائدة ، هذا الطبق فيه طعامٌ يحبه هذا الضيف بعيد عنه ، قد يستحي أن يمتد إليه ، قد يستحي أن يمد يده ، قد يستحي أن يقول لك : قرب لي هذا الطبق ، الإنسان الضيف يغلب عليه الحياء ، هذه على صاحب البيت .
( سورة الذاريات )
قرب الطعام ، وسكت الضيف ، أحياناً يأتي المضيف بصحن الفاكهة ، ولا يقول للضيف : تفضل ، يمضى ربع ساعة ، عشر دقائق ، ثلث ساعة ، المضيف مشغول بموضوع ، وقدم الفاكهة ، أو قدم الطعام ، ولم يقل للضيف : تفضل ، كلمة تفضل من لوازم الإضافة ، عدم الاستئذان ، عدم الإعلام ، السرعة في إحضار الطعام ، اختيار أطيب الطعام ، تقريب الطعام ، الدعوة إلى الطعام ، خمسة آداب من آداب الضيافة تضمنتها هذه الآية الكريمة ، قال تعالى:
( سورة الذاريات )
إذاً تعلمنا من هذه الآية خمسة آداب في إكرام الضيف ، وقد تعلمون جميعاً أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : ((إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم)) .
( من شرح الجامع الصغير )
ليس معنى هذا أنك ملزم أن تكرم كل ضيف ، ولكن أحياناً ترحيبك الشديد ، واستقبالك للضيف ، وتواضعك له ، هذا يدخل على قلبه السرور أضعاف ما تقدم له من طعام وشراب ، إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم .
شيء آخر ، من آداب الضيافة بين المؤمنين ألا يتكلف المفقود ، وألا يجود إلا بالموجود ، لو أن هذا طبق ، صار ظل الضيف خفيفًا ، وعبئه قليلا ، ألاّ نتكلف المفقود ، وألا نجود إلا بالموجود ، والنبي عليه السلام في أحاديث كثيرة وجه السيدة عائشة ، وأمرها ألا تكلف للضيف ، لأن الإنسان إذا تكلف للضيف ربما استثقل حضوره ، فإذا طرق بابك أخ كريم فالذي عندك قدمه له ، إذاً إتيان الضيف لا يشكل عبئاً عليك ، أما إذا كان لابد من التكلف ، وتكليف الإنسان ما لا يطيق ، فعندئذٍ يصبح الضيف ثقيلاً على المضيف .
شيء آخر : إذا صار اجتماع بين الإخوة الأكارم ، مثلاً لقاء على حفظ قرآن كريم ، أنا أرجح ، أو أفضل ألا تكون الضيافة مكلفةً ، لأن الحاضرين أنواع ؛ بعضهم الموسر ، بعضهم أقل يسارًا ، بعضهم له دخل محدود ، فإذا ارتفع مستوى الضيافة ربما لا يستطيع هذا الذي حضر هذه الوليمة أن يجري مثلها ، لذلك اللقاءات التي فيها بذْخٌ وتكلف شديد قد تنتهي سريعاً ، فإذا كان هذا اللقاء لله عز وجل فسر بسَيْرِ أضعف الحاضرين .
وقال تعالى :
سورة هود))
هذه إشارة ثانية ، إلى أن الإنسان يحب أن يكون أمام ضيفه في شكل جيد ؛ في مظهر البيت ، في تربية الأولاد ، في كل شيء ..
( سورة هود )
أما كما يفهم عامة الناس من قوله تعالى :
( سورة هود )
هذا لا يعني أن سيدنا لوط عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام قدَّم لضيوفه بناته ، هذا ليس صحيحاً ، لكن لأنه نبي كريم ، فبنات المؤمنين كأنهن بناته ، أي يا أيها الضيوف لماذا تبغون الشيء الذي نهى الله عنه ؟ هؤلاء البنات في هذه البلدة ، هؤلاء الذين يمكن أن تكون العلاقة مشروعةً فيما بينكم وبينهن ، فهنا بناتي بمعنى كل بنات القرية بمثابة بنات سيدنا لوط ، أما أن يقدم بناته ، وليس المقصود بنتًا بالذات ، عليكم أن تحيدوا عن هذا الانحراف إلى الطريق المشروع الذي سنه الله عز وجل .
***
الآن : عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)) .
( متفق عليه )
الحقيقة أن النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث الدقيق ربط إكرام الضيف ، وصلة الرحم ، والقول الطيب الحَسَن ، ربط هذه كلها بالإيمان بالله واليوم الآخر ، لأن الإيمان بالله كل هؤلاء الناس عباده ، فإذا آمنت بربك ، آمنت بخالقك ، عرفت ما عنده من عطاء ، وما عنده من عقاب ، الآن التقرُّب إلى الله يتم عن طريق إكرام عباده ، إذاً من لوازم الإيمان أن تكرم عباده ، هذا معنى دقيق جداً ، بشكل أن الإيمان من دون عمل يتبعه ، من دون ثمرة يثمرها ، من دون شيء يعطيه هذا المؤمن ، فإيمانه مشكوك فيه ، ما حقيقة إيمانك ؟ ما الدليل على إيمانك ، أحد التابعين الكبار سئل : هل أنت مؤمن ؟ هذا موضوع خلافي ، فهل يا تري يقول : نعم أنا مؤمن ، أما أن يقول : إن شاء الله مؤمن ، هذا موضوع خاض فيه العلماء خوضاً كبيراً ، لكن هذا التابعي الجليل لما سئل هل أنت مؤمن : قال : إن كان الإيمان كما قال الله عز وجل :
( سورة البقرة : من آية " 285")
إن كان الإيمان وفق هذه الآية فأنا مؤمن ، أما إذا كان الإيمان :
( سورة الأنفال : من آية " 2" )
على هذه الآية فأنا مؤمن إن شاء الله ، أما على تلك فأنا مؤمن قطعاً ، هذا من أدق الأجوبة حول هذه الموضوع ، الإيمان نفحات ، هذه النفحات قد تأتي ، وربما لا تأتي ، قد تأتي في وقت دون وقت ، كلكم يعلم : قد تقرأ القرآن تشعر بأشواق ، تشعر بسرور ، تشعر بسعادة ، وقد تقرأ أحياناً لا تجد شيئاً ، فالإنسان له أحوال ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها)) .
لذلك العلماء قالوا : إن يوم الجمعة في ساعة رحمة ، فإذا هيأ الإنسان نفسه ، واستعد ، وتوضأ ، وصلى ، وجاء المسجد ، لعل هذه الساعة تكون في صلاة الجمعة ، فتأتي الرحمة ، كل واحد له مع الله خبرة عاطفية ، ببعض المجالس ، ببعض الساعات ، إما في صلاة ، أو في قراءة قرآن ، أو في مجلس علم ، أو في تأمُّل في ملكوت السماوات والأرض ، يشعر أن شيئاً علوياً قد هبط إلى قلبه ، يشعر أن سعادة لا توصف شعر بها ، هذه ربما لا تعود له مرة ثانية في أسبوع واحد ، هذه هي النفحة ، يقول لك : والله حضرت درساً لا أنسى طعمه حتى الآن ، الدرس الثاني ليس كذلك ، هذه نفحة الله عز وجل : ((إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها)) .
( من الدر المنثور : عن " أنس " )
أنت هيِّئ نفسك بالاستقامة ، هيِّئ نفسك بالانضباط ، هيِّئ نفسك بالعمل الصالح ، لكن لا شك أن الله عز وجل حينما قال :
( سورة الكهف : من آية " 110" )
هذه الآية مطلقة ، والمطلق في القرآن على إطلاقه ، لقاء الله عز وجل في الصلاة ، لقاء الله عز وجل في الدنيا ، لقاؤه في الدنيا ، يعني هذا الاتصال بالله عز وجل ، هذا الاتصال بالله ثمنه العمل الصالح ، قاعدة ، قد تقف على باب إنسان أيام دون أن يسمح لك بالدخول عليه ، وقد تنتظر شهوراً ، ولكن الله سبحانه وتعالى فتح باب رحمته على مصراعيه ، وقال :
( سورة الكهف : من آية " 110" )
وبعضهم قال : هذه الآية من الآيات القليلة في القرآن الكريم التي تلخِّص القرآن الكريم .
( سورة الكهف : من آية " 110" )
ماذا يوحى إلي ؟ هذا القرآن ، ما ملخصه ؟
( سورة الكهف : من آية " 110" )
يجب أن تؤمن بالله واحداً ، هذا يسمونه توحيد الربوبية والألوهية والخلق ، خالق واحد ، ورب واحد ، وإله واحد هو الله سبحانه وتعالى ، هذه كلمة ، أي إنسان يقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، ولكن قد تأتي ظروف ، وتأتي مواقف محرجة ، وتأتي إغراءات ، وتأتي ضغوط ، يبدو للمقصر أن هناك إلهاً آخر ، لذلك يطيع هذا الذي ظنه إلهاً ، ويعصي ربه ، إذاً هذا الإيمان النظري لا يكفي ، كلما اجتهدت في معرفة الله عز وجل ، ارتقى مستوى توحيدك ، إلى أن تشعر أن كل خلية في جسمك ، وكل شُعَيْرَة في جسمك تنطق بـ : لا إله إلا الله ، لا معطي ولا مانع ، ولا خافض ولا رافع ، ولا معز ولا مذل ، ولا قابض ولا باسط ، ولا مسعد ولا مشقي ، ولا محيي إلا الله عز وجل .
فأنت الآن بأي تعامل مع جهة ، مع دائرة حكومية ، تسأل : من بيده التوقيع ؟ مَن بيده الموافقة ؟ من هو الشخص الأول في هذه المؤسسة ؟ من هو الذي بيده الأمر ، بيده الموافقة وعدم الموافقة ؟ أنت بدافع طبيعتك الإنسانية في تعاملك مع جهات متعددة ، تحب أن تعرف من هو الشخص الأول ، من هو الذي بيده كل شيء ، من هو الذي إذا قال نعم ، نعم ، لا ، لا ؟ يمكن أن تدخل مشفى فتجد حجابًا ، وتجد ممرضين ، وتجد أطباء ، وتجد موظفين ، ومحاسبين ، لكن يا ترى من الذي يسمح لك أن يقبل هذا المريض في سرير بالدرجة الأولى ؟ المدير العام ، فأي حديث تجريه مع أناس جانبيين مضيعة للوقت ، لا يمكن أن يسمح لك بإدخال مريضك إلى هذه المشفى إلا بموافقة المدير العام ، هناك أطباء كُثُر ، ورؤساء شُعَب بالأطباء ، ومدراء مخابر ، ومحاسبون ، وممرضون ، وحجّاب ، وحرس .. إلخ ، كل هؤلاء ليس بيدهم شيء .
وإذا كشفت في الدنيا أن الأمر كله بيد الله ، خصومك بيد الله ، أعداءك بيد الله ، أحبابك بيد الله ، زوجتك ، أولادك ، مَن هم دونك ، من هم فوقك ، صحتك ، أجهزتك ، قلبك ، رئتاك ، الكليتان ، الدماغ ، الأعصاب ، إذا عرفت أن كل شيء بيد الله ، قطعت علاقاتك مع الخلق ، وربطتها مع الحق ، هذا هو العلم ، بل هذه نهاية العلم ، لذلك قالوا : "نهاية العلم التوحيد " ، أي توحيد هذا ، كما قال عليه الصلاة والسلام : ((من قال لا إله إلا الله بحقها دخل الجنة ، قالوا : وما حقها ؟ قال : أن تحجزه عن محارم الله)) .
تكلمت كثيراً في هذا الموضوع ، وأحب أن أقول ، وأعيد عليكم هذا التشبيه : الشهوات التي أودعها الله في الإنسان قوى كبيرة ، فاندفاعك إلى الطعام والشراب ، اندفاعك إلى كسب المال ، اندفاعك إلى قضاء الملذات ، هذه شهوات أودعها الله فيك كأنها محرك ، تدفعك نحو تحقيقها ، هذه الشهوات قوى ، لا تقف في وجهها كلمات ، فلو السيارة منطلقة بسرعة مئة ، ضع ورقًا هشًّا في طريقها ، هل يستطيع هذا الورق أن يقف في طريقها ؟ أو أن يمنعها عن متابعة السير ؟ هذه القوة المندفعة لا يقف في وجها إلا قوة كبرى ، العلم قوة ، إذا كان ضئيلا وزنه عشرة غرامات ، والشهوات خمسة كيلو ، عشرة أخريات ، عشرون ، إلى أن تتشكل قناعات ، إذا كان الإنسان يسكن مثلاً ـ لا سمح الله ولا قدر ـ في طابق مرتفع ، ومعه مرض يقتضي أن يكون طابقه أرضيًّا ، سأل أول طبيب قال له : والله يجب أن تسكن في طابق أرضي ، وأعطاه تعليلا جيدًا ، سأل الثاني ، سأل الثالث ، الرابع ، قرأ نشرة ، قرأ مقالة ، خلال شهر ، كلما سأل طبيب ، وأشار عليه أن يسكن هذا الطابق الأرضي ، وأن يدع هذا الطابق العلوي ، إلى أن تتراكم هذه القناعات ، في أحد الأيام ينطلق إلى الدلال ، ويسأله عن بيت أرضي ، تحرك الآن ، ما الذي حركه ؟ قناعاته .
أكلة يحبها الإنسان ، أكل منها فحدثت له اضطرابات هضمية ، سأل الطبيب ، فقال له : يجب أن تمتنع عنها ، ما أخذ كلامه على محمل الجد ، أعادها مرة ثانية فحدث معه اضطرابات أخرى ، المرة الثالثة اضطرابات أشد ، الرابعة سيتشكل معه قرحة دائمة ، إلى أن تراكمت هذه القناعات ، فحملته على ترك هذا الطعام ، لاحظ نفسك لن تأخذ موقف عملي إلا بقناعة كبيرة .
أنا مرة ضربت مثلا ، مرة جئت من شارع العدوي ، في أيام الشتاء الباردة ، وجدت إنسانًا يركض في الساعة العاشرة ليلاً ، برد شديد ، ويرتدي ثياب الرياضة ، قلت : ما الذي حمل هذا الإنسان على أن يفعل ما يفعل ؟ الناس جميعهم في بيوتهم ، في غرفهم الدافئة ، مع أهلهم ، مستلقون على أرائك وثيرة ، يشاهدون ، يسألون ، يمزحون ، يتحدثون ، وهذا مَن أمره أن يفعل هذا ؟ إنها قناعاته ، قناعته أن الرياضة شيء ثمين جداً ، فيها وقاية للقلب ، هذه قاعدة مهمة جداً ، كل حركاتك وسكناتك أساسها القناعة ، فإذا كنت بطلاً فابحث عن قناعات صحيحة ، كي تحملك هذه القناعات على سلوك معين .
إذًا : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه )) ، ما العلاقة بين هذا وذاك ؟ الناس رجلان ، إنسان مؤمن بالله عز وجل ، أعماله كلها صالحة ، يقدم خدمات للناس بلا مقابل ، يبذل خبراته ، يبذل معلوماته ، يبذل وقته في خدمة الخلق ، ما الذي جعله يفعل هذا ؟ إيمانه بالله عز وجل ، أن الله سبحانه وتعالى يحبه إذا فعل هذا ، وهؤلاء عباده ، فإذا أكرمهم فكأنما أكرم ربه ، هكذا جاء في الحديث : ((من أكرم أخاه المؤمن فكأنما أكرم ربه)) ، الإيمان هو الأساس لهذا لما سئل النبي عليه الصلاة والسلام : ماذا ينجي العبد يوم القيامة ؟ قال : ((إيمان بالله)) .
الآن ، الإنسان ما الذي ينجيه من الأمراض ؟ يكون في عنده قناعات أن الأمراض تحيل حياته الإنسانية إلى جحيم ، والأمراض أسبابها الجراثيم ، أسبابها عدم النظافة ، فتجد الأطباء يبالغوا في النظافة لماذا ؟ لقناعات ثابتة عندهم ، فالقضية ليست قضية أننا قرأنا كتابًا ، أو سمعنا خطبة ، القضية أعمق من ذلك ، يا ترى هل لديك قناعات متراكمة بحيث تجعلك تأخذ موقفًا معينًا من كل موضوع ؟ حتى الواحد لا يغش نفسه ، ويمشي في طريق فيه وهم ، ويتوهم أنه مؤمن كبير ، وهو مؤمن عادي ، وأقل من العادي ، حتى لا يكون غاشًّا لنفسه ، ظالماً لنفسه ، يمتحن إيمانه هذا الامتحان : ما الذي قدمته في سبيل الله ؟ ما الذي منعت ؟ من أرضيت ؟ من أغضبت ؟ من وصلت ؟ من قطعت ؟ فما الموقف التي وقفتها بناء على إيمانك بالله ، وما المواقف الأخرى التي وقفتها بناء على حبك لله ؟ هذا الشيء الأساسي ، لفت نظري هذه الصيغة : ((من كان يكرم بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)) .
فالإنسان إذا أكرم ضيفه كما قال سيدنا عمر : (هذه التفاحة أكلتها ذهبت ، أطعمتها بقيت) ، الإنسان لا يدري ما هي الثمرة من إكرام الضيف ؟ قد يؤمن هذا الضيف على يد هذا الذي أكرمه ، الضيف في عنده حساسية ، ولا سيما المقصود بالضيف هنا ، ليس ضيف البلد ، إنسان انتقل من بلد إلى بلد ، ولم يكن على عهد النبي الكريم هذه الفنادق ، فلما يكون الإنسان مسافرًا ، ويدخل على بيت ، ويرحبون به ، ويقدمون له الطعام والشراب والمأوى والنوم ، فهذا إكرام كبير جداً .
((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه )) ، كلمة الرحم بمعناها الواسع الأقرباء ، من جهة الأب أو من جهة الأم ، بمعناها الضيق أقرباء الأم ، بمعناها الواسع أقرباء الأب والأم ، ((ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه )) .
ومرة ألقيت هذا الموضوع خطبة هنا ، فجاءتني أسئلة كثيرة ، الرحم ، الآن له بنات خالة ، له بنات عمة ، إذا زار عمته أو خالته أحرج من بنات عمته أو خالته ، وقع في إحراجات ، وتعليقات ساخرة ، وفي أسئلة وأجوبة ، وقد ينساق معهم ، قد يألف الجلسة ، وقد تحمله هذه المجاملة على ارتكاب معصية ، فهو قد يخرج من بيت عمته أو بيت خالته وقد وقع في إشكال كبير ، أهذه هي صلة الرحم ؟ لا والله ، لذلك قالوا : دع خيراً عليه الشر يربو.
وكلكم يعلم أن سد الذارئع أحد أبواب الأحكام الشرعية ، الأحكام الشرعية مصادرها ، القرآن ، والسنة ، والإجماع ، والقياس ، هذه المصادر الأساسية ، هناك مصادر فرعية منها الاستحسان ، منها العُرف ، منها المصالح المرسلة ، ومنها سد الذرائع ، فسد ذرائع باب أو مصدرٌ من مصادر الأحكام الشرعية ، كإنسان يوجد في بلدة فيها خمور ، وفيها معاصر للخمور ، فبعض العلماء حرم في هذه البلدة زراعة العنب ، لأن هذا العنب بالتأكيد سوف يصبح خمراً ، إذاً ما أدى إلى معصية فهو معصية ، فكل ما أدى إلى معصية فهو معصية ، فالإنسان إذا أخذ موضوع الرحم بشكل مطلق ؛ ووصل أقرباؤه من دون انضباط ، من دون تحفظ ، من دون ما يعلن عن اتجاهه الديني ، من دون ما يرفض الاختلاط ، من دون أن يرفض بعض المعاصي ، هذه ليست صلة الرحم ، لأن الله سبحانه وتعالى يقول :
( سورة التوبة : من آية " 62" )
ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، هل واضح ذلك ؟
((ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )) ، يا رسول الله أو نؤاخذ بما نقول ؟ قال : ((ثكلتك أمك يا معاذ ، وهل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم )) .
( من الدر المنثور )
الحديث المعروف الذي يقول فيه النبي عليه الصلاة والسلام : ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه)) .
( من الدر المنثور : عن " أنس " )
يا إخوان ، كما قلت لكم سابقاً : الإيمان جهد ، الجنة ثمنها كبير ، ألا إن سلعة الله غالية ، يجب أن تحفظ الرأس وما وعى ، والبطن وما حوى ، وأن تذكر الموت والبلى ، هذا الرأس فيه عينان ..
( سورة البلد)
فهل الذي خلق لك العينين لا يراك ؟!
( سورة البلد)
إذاً اللسان بابٌ كبير من أبواب المعاصي ، لذلك قالوا : هناك معاصٍ في الأقوال ومعاصٍ في الأعمال ، واللسان باب كبيرٌ جداً من معاصي الأقوال ، الصامت في سلام ، والمتكلم إما له أو عليه ، والإنسان قد يتكلم كلمة لا يلقي لها بالاً ، يهوي بها في جهنم سبعين خريفاً ؛ قد تفرِّق بين زوجين ، بين أخوين ، بين شريكين ، قد تفسد علاقة بين إنسانين ، قد تجعل إنسان يتألم من نفسه .
***
وعن أبي شريح خويلد بن عمرو الخزاعي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزة ، قالوا : وما جائزته يا رسول الله ؟ قال : يومه وليلته ...)) .
الضيف المسافر الذي يأتيك من فج عميق ويقصدك ، له عندك جائزة ، جائزته أن تستضيفه يوماً وليلة ، لذلك ثمة أشخاص يحبون أن يكونوا مستعدًا للضيف ، يقول لك : هذه الفرش للضيوف ، يهيئ غرفة ضيوف ، حيث إنه يستقبل بها الضيوف ، والإنسان بحسب اتساعه ، هناك أشخاص يهيئون طابقًا بأكمله ، أعرف أناسًا ميسورين عندهم طابق بأكمله للضيوف ، زرت مرة رجلاً في بعض المناطق قال لي : هذه الشقة كلها للضيوف ، خذ حريتك ، شيء جميل إذا كان الإخوة في الله صادقة ، والإنسان ميسور .
لذلك : ((فليكرم ضيفه جائزته قالوا : وما جائزته يا رسول الله ؟ قال : يومه وليلته ، والضيافة ثلاثة أيام ، فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه)) .
(متفق عليه(
هناك جائزة ، وضيافة ، وصدقة ، يوم وليلة جائزة ، من حق الضيف ، ثلاثة أيام من حق الضيافة ، ما زاد عن هذه الأيام الثلاثة فهو صدقة على هذا الضيف .
ننتقل إلى قصة صحابي جليل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
نحن بالمناسبة كل عيد تأتي زيارات الإخوة لبعضهم البعض ، قد تأتي أحياناً مخفقة ، ينطلق من بيته إلى بيت صديقه بطرف المدينة الثانية ربما لا يجده ، يشعر بالإحباط ، فنحن في العيد الماضي والله سبحانه وتعالى تفضل علينا بهذه الطريقة ، صارت الزيارة في المسجد ، في قاعة المكتبة ، عندنا ثاني أيام العيد يوم الثلاثاء ، من الساعة العاشرة ـ إن شاء الله تعالى ـ وإلى آذان الظهر ، ثلاث ساعات تقريباً ، فكل الزيارات تكون في هذا الوقت ، والإنسان يتفرغ في العيد إلى أقربائه الذين لا يتاح له أن يتصل بهم ، أو أن يزورهم إلا في أيام العيد ، أيام العيد أيام زيارة الأقارب ، وأيام صلة رحم .
صحابي اليوم سيدنا ثابت بن قيس ، هذا خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، النبي عليه الصلاة والسلام له شاعر ، وله خطيب ، فكان حسَّان شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان ثابت خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت الكلمات تخرج من فمه قويةً صادعةً جامعةً رائعةً .
وفي عام الوفود وفد على المدينة وفد بني تميم ، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ـ هذا الوفد ـ : جئنا نفاخرك ، فأذن لشاعرنا وخطيبنا ، هكذا كانت العادات في الجاهلية : جئنا نفاخرك ، أي جئنا لنفتخر عليك ، وهو النبي عليه الصلاة والسلام ، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال : ((أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم)) .
(من تخريج أحاديث الإحياء(
لو أنه طردهم ، أو نهرهم ما فعل شيئاً ، ولكنه حلم عليهم ، واستوعبهم ـ بالتعبير الحديث ـ واحتواهم ، كلمة كبيرة جداً أن يقول إنسان لرسول الله : جئنا نفاخرك ، جئنا نفتخر عليك ، نحن كذا ، نحن كذا ، مَن من البشر بإمكانه أن يقول كلمة مدح لنفسه أمام النبي الكريم ؟! الآن والله ، الآن ، إذا زرت المقام النبوي الشريف ، لو كان يقف أمام المقام أكبر شخصية معاصرة لا قيمة لها أمام قبر النبي ، أحياناً موسم الحج يأتي وفود من دول كثيرة ، يأتي رؤساء ، حكماء ، وزراء ، رؤساء جمهوريات ، ملوك ، إذا دخل هؤلاء جميعاً الحرم النبوي الشريف ، لا ترى لواحد منهم شأناً وهو في الحرم ، لمَن الشأن في الحرم النبوي الشريف ؟ للنبي عليه الصلاة والسلام .
فهذا يقول : جئنا نفاخرك ، فأذن لشاعرنا وخطيبنا ، فابتسم البني عليه الصلاة والسلام ، أنت أحياناً لا يعرف أحدهم قيمتك ، تجاوز حده ، كن حليمًا ، قد يكون للإنسان رتبة ، له مكانة ، له وظيفة عالية ، له مؤلف ، ذات مرة لم يكن معي النظارات ، كنت في مكان لا بد أن أوقع توقيعًا ، قلت له : والله اقرأ لي ما المكتوب ، ظنني أميًّا ، قال لي : هذه هكذا ، قال لي : تحب أوقع أنا عنك ، قلت له أنا : شكراً ، أنا أوقع ، فإذا نسي أحدكم النظارة ، واضطررت فسألت : اقرأ لي ماذا كتب ، إذا لم يعرفك أحدهم فهل تشتمه ؟! النبي الكريم اللهم صل عليه بكل تواضع ، أنت مخبوء بثوبك ، فمَن يعرفك ؟ إذا سافر الإنسان فلا أحد يعرفه ، الآن في الحج لا أحد يعرف أحدًا ، أنت كما قال الله عز وجل :
( سورة الأنعام : من آية " 94" )
هذا تعليم لنا ، نبينا الكريم ، سيد الخلق ، حبيب الحق ، يوحى إليه ، المعصوم ، سيد ولد آدم ، يقول له شخص : جئت أفاخرك ، هذا يجب أن يطرده ، ينهره ، أخرجوه عني ، النبي تبسَّم اللهم صل عليه ، يكون للواحد شهادة بسيطة ، وظيفة متواضعة ، له مكانة وضيعة ، له مؤلف واحد ، إذا ظنه الناس غير متعلم ، يقول : يا أخي لم يعرفوا قدري ، لم يعرفوا مكانتي ، لا ، تعلم من النبي الكريم ، التواضع ، قال : جئنا نفاخرك فأذن لشاعرنا وخطيبنا ، فابتسم النبي عليه الصلاة والسلام وقال : ((قد أذنت لخطيبكم فليقل )) ، تفضل فاخرنا يا أخي ، فقام خطيبهم عطارد بن حاجم ، ووقف يزهو بمفاخر قومه ، ولما آذن بانتهاء ، قال عليه الصلاة والسلام لثابت بن قيس : ((قم فأجبه)) ، تفضل رد عليه .
ونهض ثابت فقال :" الحمد لله الذي السماوات والأرض خلقه ، قضى فيهن أمره ، ووسع كرسيه علمه ، ولم يكن شيءٌ قط إلا من فضله ، ثم كان من قدرته أن جعلنا أئمة ، واصطفى من خير خلقه رسولاً ، أكرمهم نسباً ، وأصدقهم حديثاً ، وأفضلهم حسباً ، فأنزل عليه كتابه ، وائتمنه على خلقه ، فكان خيرة الله من العالمين ، ثم دعا الناس إلى الإيمان به ، فآمن به المهاجرون من قومه وذوي رحمه ، أكرم الناس أحساباً ، وخيرهم فعالاً ، ثم كنا نحن الأنصار أول الخلق إجابة ، فنحن أنصار الله ووزراء رسوله " .
تكلم ارتجاليًا في حضرة النبي ، بالمناسبة الإنسان يتكلم ، وقد يكون طليق اللسان ، أما أن يتكلم بحضرة مَن علّمه ، أو بحضرة نبي عظيم ، يفقد أربعة أخماس قدراته ، انظر إلى طبيب متخرجٍ حديثاً ، وقل له : عالج هذا المريض في حضرة أستاذك ، يرتبك ، هذا الشيء معروف ، الإنسان يجول ويصول مع مَن دونه ، أما مع أقرانه ، طبيب في بسهرة ، يتكلم كما يشاء ، لا يوجد من يردّه ، أمّا بوجود طبيبين آخرين في السهرة فقد يكون يخطَّأ ، أحياناً أطباء ، أحياناً محامون ، أحياناً مدرسون ، أحياناً مثقفون ، أحياناً علماء ، فإن تتكلم بطلاقة أمام أنداد لك من مستواك ، فالقضية ليست سهلة ، أما أن تتكلم أمام النبي الكريم فهذا الشيء يحتاج إلى قدرات عالية جداً .
هذا الخطيب اللامع ، دائماً أهل اللسان بطولاتهم في اللسان فقط ، في الخطابة ، والتأليف .. إلخ ، لكن قلما يجمع الإنسان بين بطولة السنان واللسان ، أمّا هذا الخطيب الصحابي الجليل فبقدر ما هو خطيب مصقع ، بقدر ما هو بطل شجاع ، ففي معركة اليمامة التي شن فيها مسيلمة الكذاب حرباً شعواء على المسلمين ، صاح هذا الصحابي الجليل وخطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " والله ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " ـ ثم ذهب غير بعيد ، وعاد ، وقد تحنَّط ، ولبس أكفانه ، وصاح مرة أخرى : " اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ـ يعني جيش مسلمة ـ وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء " ، أي تراخي المسلمون في القتال .
النقطة الدقيقة في هذه الحادثة أن النبي عليه الصلاة والسلام ربَّى أصحابه على معرفة الله ، وعلى الإخلاص له ، فكان معهم أو لم يكن معهم ، فأنت إذا كنت داعية لله عز وجل ، المفروض أن تبني إخوانك بناء حيث يكونون ورعين معك ، وبعيداً عنك ، في حلهم وترحالهم ، في جدِّهم ولهوهم ، في إقامتهم وسفرهم ، في يسرهم وعسرهم ، في إقبال الدنيا عليهم ، وفي إدبارها عنهم ، ماذا قال الله عز وجل ؟
( سورة الأحزاب )
فهذا الصحابي الجليل لما رأى شيئا من التقصير في منازلة مسيلمة الكذاب قال : " والله ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، ثم ذهب غير بعيد ، وعاد ، وقد تحنط ، ولبس أكفانه ، وصاح مرة أخرى : " اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ـ يعني جيش مسلمة ـ وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء " ، أي تراخي المسلمون في القتال ، وانضم إليه سالم مولى النبي عليه الصلاة والسلام وكان يحمل راية المهاجرين ، وحفر الإثنان لنفسيهما حفرة عميقة ، ثم نزلا فيها قائمين ، وأهالا الرمال عليهما حتى غطت وسط كل منهما ، وهكذا وقف طودين شامخين ، نصف كل منهما غائص في الرمال مثبت في أعماق الحفر ، بينما نصفه الأعلى صدره وجبهته وذراعاه يستقبلان جيوش الوثنية والكذب ، وراحا يضربان بسيفيهما كل من يقترب منهما من جيش مسيلمة حتى استشهدا في مكانهما .
خطيبٌ ، ولكنه بطل ، هكذا كان السلف الصالح ، بقدر ما هو عالم بقدر ما هو شجاع ، بقدر ما هو منطقي ، ونظري ، وفكري بقدر ما هو عملي ، ويضحي ، قال : وكان مشهدهما رضي الله عنهما هذا أعظم صيحة أسهمت في رد المسلمين إلى مواقعهم ، حيث جعلوا من جيش مسيلمة الكذاب تراباً تطأه الأقدام .
هذا الخطيب المصقع كما يقولون لما نزل قوله تعالى :
( سورة لقمان )
أغلق ثابت باب الدار ، وجلس يبكي ، وطال مكثه على هذه الحال حتى نمي إلى النبي عليه الصلاة والسلام أمره ، فدعاه وسأله فقال ثابت : "يا رسول الله ، إني أحب الثوب الجميل ، والنعل الجميل ، وقد خشيت أن أكون بهذا من المختالين " ، الإيمان الحقيقي ، إذا قرأت كتاب الله عز وجل ورأيت وصفاً من أوصاف المؤمنين ، لا ينطبق عليك ، أو رأيت وصفاً من أوصاف المنافقين ينطبق عليك ، يجب ألا تنام الليل ، هذا الحد الأدنى في الإيمان ، أما أن تقرأ أوصاف المؤمنين ، وأنت بعيد عنها ، أن تقرأ أوصاف المنافقين ، وبعضها متلبِّس بها ، وتنام مطمئن البال مرتاحاً ، ليس هذا من صفات المؤمنين ، قال : " يا رسول الله إني أحب الثوب الجميل ، والنعل الجميل ، وقد خشيت أن أكون بهذا من المختالين " ، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضحك راضياً : ((إنك لست منهم ، بل تعيش بخير ، وتموت بخير وتدخل الجنة )) ، فبشره النبي عليه الصلاة والسلام .
حادثة مشابهة ، لما نزل قوله تعالى :
( سورة الحجرات )
أغلق ثابت عليه داره ، وطفق يبكي ، كان خطيب مفوه ، صوته جهوري ، مرتفع ، يبدو أنه كان قد يعلو صوته فوق صوت النبي ، فظن أن هذه الآية قد تنطبق عليه ، فجلس يبكي ويندب حظه ، فلما سأله النبي عن غيابه قال : " يا رسول الله إني امرئ جهير الصوت وقد كنت أرفع صوتي فوق صوتك يا رسول الله ، وإذاً فقد حبط عملي ، وأنا من أهل النار " أيضاً النبي الكريم أجابه : ((إنك لست منهم ، بل تعيش حميداً ، وتقتل شهيداً ، ويدخلك الله الجنة )) .
آخر قصة من قصص هذا الخطيب الصحابي الجليل : لما استشهد سيدنا ثابت رضي الله عنه ، مر به واحد من المسلمين الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام ، ورأى على جثمانه درعاً ثمينة ، فظن هذا الرجل الحديث العهد بالإسلام أن من حقه أن يأخذها ، فأخذها ، ولندع راوي الواقعة يرويها بنفسه :
بينما رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت في منامه ، فقال له : إني أوصيك بوصية ، فإياك أن تقول : هذا حلم فتضيعه ، إني لما استشهدت بالأمس ، ومر بي رجل من المسلمين فأخذ درعي ، وإن منزله في أقصى الناس ، وقد كفأ على الدرع برمة ، وفوق البرمة رحل ، فأتِ خالدًا فمره أن يبعث فيأخذها ، فإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له : إني عليَّ من الدين كذا وكذا " ، هذه كرامة ، أن إنسانًا استشهد وعليه دين ، وكان على جسمه درع ثمين ، جاء رجل فأخذها من غير حق ، في المنام رأى أحد المسلمين سيدنا ثابت بن قيس في المنام وقال له : إن الدرع التي على جسمي أخذها فلان ، مكانه بالمكان الفلاني ، وقل لسيدنا خالد أن يأمر من يأخذ منه هذه الدرع ، ثم إذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر فقل له : إن علي من الدين كذا وكذا فليقم بسداده .
فلما استيقظ الرجل من نومه أتى خالد بن الوليد فقص عليه رؤياه ، فأرسل خالد من يأتي بالدرع ، فوجدها كما وصف ثابت تماماً ، ولما رجع المسلمون إلى المدينة ، قص المسلم على الخليفة الرؤيا ، فأنجز وصية ثابت ، وقالوا : هذه ليس في الإسلام كله وصية ميت أنجزت بعد موته على هذا النحو سوى وصية ثابت بن قيس .
فكرامة له لأنه بذل روحه في سبيل الله ، هذا الدين الذي عليه ، سيدنا النبي كان إذا مات أحد أصحابه يقول : ((أعليه دين ، فإن قالوا : نعم ، قال : صلوا على صاحبكم)) ، لا يصلي على أحد من المسلمين إلا إذا برّأ الساحة من الدين ، لذلك إذا كان الصحابة الكرام إذا توفي أحد إخوانهم يقول أحدهم : عليّ دينه يا رسول الله ، أنا أدفع دينه ، صل عليه ، علي دينه لعظم حق الدين ، فهذا المنام أحياناً يكون كرامة من الله عز وجل .
أنا سمعت عن رجل صالح جداً من أولياء الله ، يسكن بيتًا صغيرًا ، وصاحبه طلبه منه ، وبطريقةٍ أو بأخرى أخرجه منه ، فصار بلا مأوى ، أحد الأشخاص الميسورين رأى في المنام النبي عليه السلام وقال له : ((اشتر لفلان بيتاً )) ، القصة وقعت ببلدة عربية ، فالمنام أحياناً يكون كرامة من الله عز وجل ، فهذه رؤيا واضحة تماماً ، إنسان استشهد في عليه دين ، وعنده درع أخذت منه بلا حق ، فقال لمسلم : استشهدت وعلي درع ثمينة أخذها فلان ، بيته في المكان الفلاني ، وضعها في المكان الفلان ، خذها وأعطها لسيدنا خالد ، وقل لأبي بكر : علي دين فلينفذ وصيتي ، وهذه أول وصيتي لميت أنجزت بعد موته .
والحمد لله رب العالمين
about ... me- رئيس المنتدى
- عدد المساهمات : 123
نقاط : 1006855
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 19/05/2010
العمر : 34
مواضيع مماثلة
» باب إكرام الضيف وصلة الرحم - قصة سيدنا ثابت بن قيس
» قصة سيدنا سليمان مع النملة
» قصه سيدنا نوح عليه السلام
» قصة سيدنا حمزة عم النبي
» باب الورع + باب إعانة الرفيق - قصة عن الصحابي سيدنا خالد
» قصة سيدنا سليمان مع النملة
» قصه سيدنا نوح عليه السلام
» قصة سيدنا حمزة عم النبي
» باب الورع + باب إعانة الرفيق - قصة عن الصحابي سيدنا خالد
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى