إزالة العقبات الكبيرة
صفحة 1 من اصل 1
إزالة العقبات الكبيرة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العلمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة والمؤمنون ، مع الدرس الثاني من دروس موضوع الزواج الذي أردت أن يكون غِطاءً للمشكلات التي يعاني منها المجتمع المسلم ، وقد وعدتكم في الدرس الماضي أن أتحدث عن العوائق التي تقف أمام الشباب إذا أرادوا الزواج .
الحقيقة أن من أكبر هذه العوائق موضوع الفقر ، فالإسلام بادئ ذي بدء لم يكتف بالترغيب في الزواج ، بل أمر بتعجيله ، فقد روى الإمام الترمذي عن عليٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له :
(( يَا عَلِيُّ ، ثَلاثٌ لا تُؤَخِّرْهَا : الصَّلاةُ إِذَا آنَتْ ، وَالْجَنَازَةُ إِذَا حَضَرَتْ ، وَالأَيِّمُ إِذَا وَجَدْتَ لَهَا كُفْئًا )) .
[الترمذي]
إذا آنت أي آن أوانها ، أي دخل وقتها .
ينبغي أن نكون جميعاً من أنصار الزواج المبكر لشبابنا وشابَّاتنا على حدٍ سواء ، بل إن تأخير الزواج له مخاطر كبيرةٌ جداً ، ليس أقلّها الانحراف :
(( يَا عَلِيُّ ، ثَلاثٌ لا تُؤَخِّرْهَا : الصَّلاةُ إِذَا آنَتْ ، وَالْجَنَازَةُ إِذَا حَضَرَتْ ، وَالأَيِّمُ إِذَا وَجَدْتَ لَهَا كُفْئًا )) .
[الترمذي]
أيها الإخوة الكرام ، من بعض مضار تأخير الزواج الوقوع في الحرام ، الزواج حصن للفتى وللفتاة .
الآن العائق الأول الذي يقف أمام الشباب هو الفقر ، فكيف نعالج هذا العائق ؟
أولاً : ينبغي أن يُعالج بما يسمَّى الدعم المعنوي للفقير، والدعم المعنوي يحتاج إلى دعم مادي أيضاً ، فماذا نعني بالدعم المعنوي ؟
الحقيقة أن الإنسان إذا افتقر إلى المال ربما فقدَ ثقته بنفسه ، وربما جنح إلى الظن أنه عاجزٌ عن أن يُقدِم على هذا المشروع الكبير ، وربما توهَّم أن الإحجام عن الزواج خيرٌ له من هذه الورطة الكبيرة ، هذه كلها مشاعر نفسية تنتاب من افتقر إلى المال ، فتضعف ثقته بنفسه ، ويتوهم أن الإحجام عن الزواج خيرٌ له ، يشعر أنه يعجز عن الإقدام على هذا المشروع الكبير ، بل إن الذي تضيق ذات يده يفقد كثيراً من خصائصه النفسية ، فالإنسان له خصائص ، وله قدرات ، فإذا ضاقت يده عن أن تملك ما يقيم أوْده فَقَد كثيراً من خصائصه الأساسية التي أكرمه الله بها ، والناس لضعف إيمانهم ولضعف تفكيرهم لا ينظرون إلى الفقير إلا على أنه فقير ، وينسون أن هذا الذي أمامكم إنسان يتمتع بالفكر والعقل ، والإدراك والنفس والمشاعر ، والمبادئ والقيم ، لذلك الناس التائهون الشاردون عن منهج الله عزّ وجل يحجمون عن تزويج الفقير لتوهمهم أنه لا يستطيع أن يُسعد ابنتهم ، وقد تكون الحقيقة عكس ذلك .
نحن نعود إلى كتاب الله :
( سورة النساء : آية " 65 " )
( سورة الأحزاب : آية " 36 " )
ماذا قال الله عزّ وجل في القرآن الكريم ؟ قال :
( سورة النور )
وأمام هذه الآية وقفةٌ طويلة ، ] أَنْكِحُوا [ فعلُ أمرٍ ، و] الأَيَامَى [ جمعُ أيّمٍ ، والأيِّم أيّ شخصٍ ذكراً كان أو أُنثى لا زوجة له ، ] أَنْكِحُوا الأَيَامَى [ ، والأمر موجه إلى مجموع الأُمة ، وإذا وجِّه الأمر إلى مجموع الأمة فهو موجهٌ بالتبعية إلى أُولي الأمر ، لأنهم ينوبون عن مجموع الأمة في إدارة أمورهم .
ماذا يقول العلماء الكبار في هذه الآية ؟ يقول ابن العربي في تفسيره : " في هذه الآية دليلٌ على تزويج الفقير ، والفقير ليس له الحق أن يقول : كيف أتزوج وليس لي مال ؟ فإن رزقه ورزق عياله على الله عزّ وجل " ، وفي القرآن الكريم :
نبدأ الآن بالدعم المعنوي : يجب على من لا يملك مقومات الزواج أن يشعر أن هذا العمل يغنيه ، فإنْ يكونوا فقراء قبل الزواج يغنِهم الله من فضله ، والنبي عليه الصلاة والسلام زوَّج صحابيةً من بعض أصحابه ، وليس له إلا إزارٌ واحد ، وقد زوَّج النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه على سورةٍ يحفظها من كتاب الله .
القاضي أبو مسعود يقول : " اطلبوا الغنى في هذه الآية " ، أيْ إذا أردت أن تكون غنياً فتزوج ، لأنه ما شكا أحدٌ إلى النبي e ضيقَ ذاته إلا قال له : " اذهب فتزوج " .
القصد أن الإنسان الذي لا يملك ما يكفي للزواج أن يشعر أن الله سبحانه وتعالى سوف يغنيه إذا أقدم على هذا الزواج ، لكنك إذا أردت أن تكون واقعياً ، هذا الغنى الذي يكون بعد الزواج ربما شاءه الله ، وربما لم يشأه سبحانه ، لكي تكون واقعيًّا ، إنْ شاءه فلحكمةٍ بالغة ، وإن لم يشأه فلحكمةٍ بالغة ، لذلك قال تعالى :
الأصل أن الذي يقدم على الزواج يغنيه الله سبحانه وتعالى إن شاء .
أحياناً الأب يكون غنياً ، وهذا ابنه ، والأصل أن يعطيه ما يريد ، لكن إذا ثبت للأب أن هذا العطاء ربما أضرَّ مستقبله ، ربما استخدمه فيما لا يرضي ، قد يمنع الأب ابنه من عطاءٍ لحكمةٍ يراها ، لذلك الغنى هنا الذي وعد الله به من يقدم على الزواج مرتبطٌ بمشيئة الله عزَّ وجل ، ماذا يقول الصديق رضي الله عنه في هذه الآية ؟ يقول : << أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى >> .
ماذا يقول سيدنا عمر عن هذه الآية ؟
( سورة النور : آية " 32 " )
يقول عمر رضي الله عنه : << ما رأيت مثل من يجلس أيماً بعد هذه الآية : ] أَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ [ >> .
ما رأيت : أي أنا أعجب أشدَّ العجب مما يبقى أيماً بعد هذه الآية ، هذا قول سيدنا عمر .
ويقول أيضاً : << التمسوا الغنى في الزواج >> .
الإمام البخاري في صحيحه عقد باباً تحت عنوان تزويج المعسر لقوله تعالى :
في شرح ابن حجر العسقلاني لصحيح البخاري ، يقول ابن حجر: " إن الفقر في الحال لا يمنع التزويج لاحتمال حصول المال في المآل " .
هناك مناقشة دقيقة أرجو أن تكون واضحةً لديكم ، الله عزَّ وجل يغني الأعزب أو يفقره ، ويغني المتزوج أو يفقره ، مادام الغنى الذي وعد الله به منوطاً بمشيئة الله معنى ذلك أن يمكن للإنسان أن يتزوج ولا يغتني ، أو يكون أعزب وهو فقير ، وقد يكون أعزب وهو غني ، ومادام هذا منوطاً بمشيئة الله عزَّ وجل فلماذا ربط الله الغنى بالزواج ؟ حسب المعنى الدقيق للآية يمكن أن يغني الله الأعزب أو يغني المتزوج ، أو يفقرهما معاً ، فلماذا ربط الله عزَّ وجل الغنى بالزواج ؟
يجيب العلماء بأن الإنسان في الأعم الأغلب يتوهم أن الزواج إنفاق المال وإنجاب الأولاد ، وتأمين الطعام والشراب والكساء ، ففي توهم بعض الناس أن الزواج يعني المزيد من المال ، وأن العزوبة ربما كانت أخفُّ إنفاقاً من الزواج ، لأنه نظر إلى الأسباب ، ولم ينظر إلى المسبِّب ، فلذلك طمأننا ربنا جلَّ جلاله وقال : لا تربطوا بين الزواج والفقر ولا بين الغنى وترك الزواج ، فالله سبحانه وتعالى هو المغني ، وهو المعطي ، وهو الذي يرفع الإنسان من حالٍ إلى حال .
يقول عليه الصلاة والسلام :
(( ثلاثةٌ حقٌ على الله ... )) .
بالمناسبة إذا وردت كلمة على مع لفظ الجلالة فهي تفيد الإلزام ، لكن الله من يلزمه ؟ قال العلماء : إذا قال الله عزَّ وجل :
( سورة هود)
( سورة هود : آية " 6 " )
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( ثَلاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمُ : الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الأَدَاءَ ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ )) .
أي أن الله جلَّ جلاله ألزم نفسه إلزاماً ذاتياً أن يعين كلَّ طالب عفاف من دون استثناء ، أفلا يكفي هذا الحديث : (( ثَلاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمُ : الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الأَدَاءَ ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ )) .
[الترمذي]
هذا الذي أريده من كلمة دعم الفقير الدعم المعنوي ، أي أن الفقير ينبغي أن يقدم ينبغي ألا يحجم ، لأنه من ترك التزويج مخافة العيلة فليس منا ، بل يجب أن يأخذ بالأسباب ، وأن يتوكل على رب الأرباب ، لا ينبغي أن يتردد ، أما بالحساب فربما عزف الإنسان عن الزواج كلياً ، أما بالتوكل على الله اعتماداً على هذه الآية العظيمة :
( سورة النور )
فإنه يقدم على الزواج .
: (( ثَلاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمُ : الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الأَدَاءَ ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ )) ، و : << ما شكا إلى النبي e أحدٌ ضيق ذات يده إلا قال له : اذهب فتزوج >> .
لقد وردت أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد قال سيدنا سعد بن أبي وقاص : << ثلاثةٌ أنا فيهن رجل ، وفيما سوى ذلك فأنا واحدٌ من الناس ، ما سمعت حديثاً من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلا علمت أنه حقٌ من الله تعالى ...>> .
هذه الفقرة الأولى من الدرس .
الفقرة الثانية ، الفقر ليس ينقص من قدر الإنسان ، دققوا لماذا جعل الله بعض الأنبياء فقراء ؟ لماذا جعل الله بعض الأنبياء أولادهم ليسوا على مذهبهم ؟ سيدنا نوح ، ولماذا جعل الله بعض الصديقات آسية امرأة فرعون صديقة وزوجها فرعون نبيٌ كان ملكاً ، ونبيٌ كان راعي غنم ، ونبيٌ كانت له زوجةٌ سيئةٌ :
( سورة التحريم )
إنّ الفقر لا يزري بصاحبه ، بل إن النبي كان عليه الصلاة والسلام كان فقيراً ، وقد كان يدخل إلى البيت فلا يجد أكلا ، فعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ :
(( يَا عَائِشَةُ ، هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ ؟ قَالَتْ : فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ ، قَالَ : فَإِنِّي صَائِمٌ )) .
عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ ، وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ ، وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ )) .
[الترمذي]
مر رجل على رسول الله وكان عليه الصلاة والسلام مع أصحابه ، ويبدو أن هذا الرجل غني ، فعَنْ سَهْلٍ قَالَ : مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ :
(( مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا ؟ قَالُوا : حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ ـ أن يزوَّج ـ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْتَمَعَ ، قَالَ : ثُمَّ سَكَتَ ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ : مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا ؟ ـ يبدوا أنه فقير ـ قَالُوا : حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لا يُنْكَحَ ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لا يُشَفَّعَ ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لا يُسْتَمَعَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَذَا ـ يعني الفقير ـ خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا )) .
[البخاري]
الفقر لا يقدم ولا يؤخر ، ولا يرفع ولا يخفض ، ولا يعز ولا يذل ، هذا عند التائهين ، عند الشاردين عند الماديين ، عند أهل الدنيا ، لكن الفقر في عالم الإيمان شيءٌ عرَضي ، قدَّره الله عزَّ وجل لحكمةٍ بالغة ، إما امتحاناً ، وإما تأديباً ، وإما حفظاً .
عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَحْمِي عَبْدَه الْمُؤْمِنَ مِنْ الدُّنْيَا وَهُوَ يَحْمِيهِ كَمَا تَحْمُونَ مَرِيضَكُمْ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ تَخَافُونَهُ عَلَيْهِ )) .
[أحمد]
هذا الحديث يكفي ، إن هذا ، وأشار إلى الفقير ، خيرٌ من ملء الأرض من هذا ، وهذا الحديث ورد في صحيح البخاري وهو من أصح الأحاديث .
وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ ، إِلا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ)) .
[الترمذي]
كيف ؟ كلما طرق بيت المسلم خاطبٌ فقير ردَّ لفقره ، هذه الفتاة بقيت بلا زواج ، وكلما طلب فتىً فقير للزواج رد لفقره فبقي هذا الفتى بلا زواج ، ما الذي سيحصل ؟ نحن أمام أعداد كبيرة جداً من الفتيان والفتيات فاتهم قطار الزواج ، لا لشيء إلا لأنهم فقراء ، وحينما يفوت الإنسان قطار الزواج يصبح أكثر عرضةً للفساد مما لو تزوج ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصوْمِ ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ )) .
( صحيح البخاري عن ابن مسعود)
تعريف دقيق : (( أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ .. إِلا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ )) .
من رغب في الفتاة لأنها غنية ، ما الذي يحصل ؟ روى الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ : لِمَالِهَا ، وَلِحَسَبِهَا ، وَجَمَالِهَا ، وَلِدِينِهَا ، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ `
[البخاري]
في حديث آخر أرويه لكم دائماً :
(( من تزوج المرأة لجمالها أذله الله ، ومن تزوجها لمالها أفقره الله ، ومن تزوجها لحسبها زاده الله دناءةً ، فعليك بذات الدين تربت يداك )) .
[ورد في الأثر]
ويقول ابن حجر العسقلاني في شرح هذا الحديث : " يليق بالمؤمن الدين والمروءة ، أن يكون الدين مطمحه في كل علاقاته الإنسانية ، ولا سيما إذا كانت العلاقة مديدةً ، وهل من علاقةٍ أطول من علاقة الزواج ؟ " .
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال عليه الصلاة والسلام :
(( لا تَزَوَّجُوا النِّسَاءَ لِحُسْنِهِنَّ فَعَسَى حُسْنُهُنَّ أَنْ يُرْدِيَهُنَّ ، وَلا تَزَوَّجُوهُنَّ لأَمْوَالِهِنَّ فَعَسَى أَمْوَالُهُنَّ أَنْ تُطْغِيَهُنَّ ، وَلَكِنْ تَزَوَّجُوهُنَّ عَلَى الدِّينِ ، وَلأَمَةٌ خَرْمَاءُ سَوْدَاءُ ذَاتُ دِينٍ أَفْضَلُ )) .
طبعاً لو قلنا : لحسنهن أي لحسنهن فقط ، أي أنه لم ينتبه للدين ، انتبه إلى الجمال فقط ، خرماء أي أنها مقطوعة الأنف ، مثقوبة الأذن .. ذَاتُ دِينٍ أَفْضَلُ ، كيف لا و الله عزَّ وجل يقول في القرآن الكريم :
( سورة البقرة : آية " 221 " )
الآن هذا هو الدعم المعنوي .
لكن نحن نريد الدعم المالي للفقير ، هذا الدعم موزع على ثلاث جهات : موزعٌ على عاتق الآباء ، وموزعٌ على عاتق المجتمع الإسلامي ، وموزعٌ على عاتق أولي الأمر ، أي واجب الأولياء ، وواجب المسلمين جميعاً ، وواجب أولي الأمر أن يقدموا يد العون لتزويج الشباب ، وبعضهم يقول : ينبغي أن يكون الدرس مؤصلاً ، ومعنى مؤصلاً ، أي معتمداً على أصول ، وهي الكتاب والسنة ، لأنه درس دين هذا ، فالأصل الكتاب والسنة .
الآن كيف أن تزويج الأبناء من واجب الآباء ، هذا شيء نحن نقبله ، ونرحب به ، ونثني عليه ، لكن النبي أوجب الآباء أن يزوِّج الأبناء ؟ استمعوا قال عليه الصلاة والسلام :
(( مَنْ وَلَدَ لَهُ وَلَدٌ ... )) .
نسميه مثلا عبد الله ، أو عبد الرحمن ، أو محي الدين ، هناك أسماء لطيفة جداً أسماء دينية ، أسماء جمالية ، أسماء فيها مكارم أخلاق ، صالح مثلاً ، عمر .
(( مَنْ وَلَدَ لَهُ وَلَدٌ فَلْيُحْسِنْ اِسْمَهُ وَأَدَبَهُ ، فَإِذَا بَلَغَ فَلْيُزَوِّجْهُ ، فَإِنْ بَلَغَ وَلَمْ يُزَوِّجْهُ فَأَصَابَ إِثْماً فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى أَبِيهِ )) .
[ورد في الأثر]
أن يسميه جعيفص مثلاً ، فما هذا الاسم ؟!! سمِّه عبد الله ، عبد الرحمن ، محي الدين ، فهناك أسماء لطيفة جداً ، أسماء دينية ، وأسماء جمالية ، أسماء فيها مكارم أخلاق كصالح مثلاً ، أو عمر .
هذا كلام النبي الذي لا ينطق عن الهوى .
أيها الآباء دققوا ، وقبل أن ترفض أن تقدم لابنك المساعدة فكِّر في هذا الحديث ، أنا عصامي يا بني ، وأنت كن عصاميًّا مثلي ، اذهب واشتغل ، لا يجوز هذا ، فالآن الأمور معقدة جداً ، الأمور معقدة إلى درجة لا يمكن أن يتم زواجٌ من دون مساعدة من الأهل .
والله هناك أب أنا كلما ألتقي به والله في قلبي احترام له لا حدود له ، سكن في بيت في أحد أحياء دمشق الراقية ، اشتراه قبل أربعين أو خمسين سنة ، والبيت أصبح ثمنه غاليًّا جداً ، وهو موظف ودخله محدود ، وعنده أولاد شباب ، فباع البيت ، واشترى لأولاده جميعهاً بيوتاً ، وسكن معهم خارج دمشق ، هذه بطولة كبيرة جداً ، أن يؤمِّن الإنسان أولاده كلهم ، طبعاً هيأ لأولاده بيوتاً على حسابه ، خرج من هذا البيت الفخم ، ومن هذه المساحة الكبيرة ، ومن هذا الحي الراقي ، وسكن خارج دمشق ، واشترى لكل ولدٍ بيتاً .
وفي روايةً أخرى للإمام البيهقي عن عمر بن الخطاب وأنس بن مالك :
(( مَنْ بَلَغْتْ ابْنَتُه اثنتي عشرة سنة ولم يزوجها فأصابت إثماً فإثم ذلك عليه )) .
قلت لكم مرةً ، وَوالله لا أتمنى أن أعيد هذه الكلمة لأنها خشنة ، لكنها وقعت : أبٌ على فراش الموت تقول له ابنته : والله لا أسامحك ، والله لا أسامحك ، والله لا أسامحك ، وربما قالت : حرمك الله الجنة كما حرمتني الزواج ، كلما جاء خاطبٌ رده لسببٍ تافه فبقيت بلا زوج .
وذكرت لكم سابقاً أن أقوى دافعٍ في الجنس البشري دافع الأمومة ، لذلك الأب يجب أن يفكِّر ملياً ، وأن يسعى حثيثاً ، وأن يأخذ بالأسباب في تزويج بناته ، أما أن يكون هو مرتاحاً ليس عنده هذا الضغط الذي أودعه الله في الأنثى وفي الرجل على حدٍ سواء ، فبدأ يحاسب هذا الخاطب ، أين سوف تسكن لي ابنتي ؟ يقول له : والله أنا عندي بيت خارج الشام ، فيجيبه : لا .. لا .. نحن نريد في الشام ، فإذا أمّن بيتاً في الشام ، قال : كم مساحته ؟ لا ، هذا صغير مثل اللعبة ، كلما قدم شيئًا رفضه ، والبنت على أحرَّ من الجمر ، والأب قاسٍ وجبار ، إلى أن فاتها قطار الزواج .
في المذهب الشافعي يجب على الرجل إعفاف ابنته إذا احتاجت إلى النكاح ، كيف يجب عليه إعفاف ابنته ؟ أي إذا كنت ميسور الحال جداً ، وأمَّنت لها بيتًا ، وأنت في كامل قواك العقلية والشرعية ، يأتيك أحسن الخطّاب لهذه الفتاة ، هذا حل كبير ، أنت حينما قدمت لها البيت ، جاءك من تثق بدينه ، وانحلّت عقبة ، لكن لا تقدم لها بيتاً ، وأنت غنيٌ كبير ، لماذا ؟ لماذا قدمت لابنك ولم تقدم لابنتك بيتاً ؟
أما مسؤولية المجتمع الإسلامي عن تزويج الأيامى فلقول الله عزَّ وجل :
( سورة النور )
علماء الأصول لهم توجيهٌ لطيف في هذه الآية ، الآيات التي توجه إلى مجموع المؤمنين هي موجهةٌ حكماً إلى أولي الأمر ، لأن أولي الأمر هم الذين يديرون شؤون المسلمين ، إذاً الحاكم المسلم مكلفٌ أن يسهِّل سُبل الزواج .
كنت في أحد عقود القران ، وطُلِب مني أن أتكلم في الحلول العملية ، أي لو هيأنا بيوتًا لا للبيع ، بل للإيجار ، شاب متفوق نال شهادة عليا ، له راتب يكفيه طعاماً وشراباً ولباساً ، لكن هذا الراتب لا يكفيه شراء بيت ، فإذا أخذنا منه ثلث دخلّه كأجرة بيت حُلّت القضية ، أنا أقول : الآن القضية متمركزة في البيت ، لذلك أرجو الله عزَّ وجل أن ينهض المسلمون بتأمين البيوت الإيجار ، فالبيع صعب ، أقل بيت ثمنه ثلاثة ملايين ، كيف يجمع هذا الشاب هذه الملايين الثلاثة ؟ هذا شيء فوق طاقته ، لكن لو قلنا له : لك دخل ستة آلاف هات ألفين منها ، يقول لك : حباً وكرامة ، أتمنى أن تنشأ بيوت من غرفتين فقط ، غرفة ومنافعها بأقل كسوة ممكنة ، وأن تؤجر هذه البيوت للشباب المؤمنين الطيبين .
قلتُ سابقاً إنني سمعت عن رجل في قرية من قرى دمشق عمَّر أربع بنايات ، وطوابق عديدة ، وشققًا عديدة ، وقال : هذه لن أبيعها إطلاقاً سأؤجرها للشباب المؤمن ، آخذ على كل بيت ألفين في الشهر ، هذا عمل صالح وكبير جداً ، أنت لا تعرف مقدار السعادة .
أرو لكم هذه القصة : أعرف أخًا سكن في بيت مستأجر ، فقالت له صاحبة البيت : أتعدني أنني إذا طلبت البيت أن تخرج ؟ قال : نعم ، تركته في البيت سنوات عشرًا ، وفجأةً طالبته بالبيت ، هو يروي لي هذه القصة ، قال لي : والله استجبت لها ، وجئت في الموعد المخصص ، فرأيت محاميًّا من ألمع محامي دمشق ، كتبت التنازل ، قال لي بعد أن وقَّعت التنازل : أمجنونٌ أنت ؟ أنت صرت في الطريق ، والقصة طويلة طبعاً لا يتسع الدرس لسردها بتفاصيلها ، لكن بقدرة قادر ، وبشيء يعدُّ خرقاً للعادات يسَّر الله له بيتاً جيداً مفتوحاً على أربع جهات في طابقٍ مرتفعٍ يكشف الشام كلّها ، ولم يكن يملك من ثمن هذا البيت شيئاً ، ولأن القصة طويلة فلن أرويها كاملة ، اشترى هذا البيت ، وسكن فيه ، وآوه الله فيه ، ولكن القصة أين عبرتها ؟ أن صاحبة البيت لماذا طلبت البيت ؟ لها ابنة فاتها قطار الزواج ، ثم جاءها خاطب ، لكن ليس له بيت ، قالت البنت لأمها : يا أمي اطلبي من فلان المستأجر أن يعطينا البيت ، فلعل البيت يكون سبباً في هذا الزواج ، فلما لبى دعوتها ، وأعطاها البيت ، ذهبت هذه الفتاة إلى أداء العمرة ، وطوال الطريق وفي مكة المكرمة وعند رسول الله صلى الله عله وسلم تدعو وتقول : اللهم هيئ لفلان بيتاً خيراً من بيتي ، لأنه جبر خاطري ، فأكرمه الله ببيت .
عندما تهيئ بيتًا لإنسان فيتزوج ، وتطمئن نفسه ، ويتزوج فتاة مؤمنة تطمئن نفسها ، أنت عملتَ عملا عظيمًا .
لذلك أيها الإخوة ، المشكلة الآن متركزة في البيوت ، إن شاء الله يتعدَّل قانون الإيجار ، وقد علمت أنه سيعدل ، وثمة سبعمئة ألف شقة في الشام مغلقة تنتظر تعديل قانون الإيجار ، فإذا أصبح القانون ساريًا فالعقد ينفَّذ بشروطه ولمدته ، فجأةً تجد سبعمئة ألف بيت في الشام معروضة للإيجار ، ولا تحلُّ هذه المشكلة إلا بتوافر بيوت للإيجار لا للبيع ، فالبيع طريقه مسدود .
إذاً :
أي أن هذا طلب من أولي الأمر أن يسهِّلوا سبل الزواج لتيسير البيوت لطالبي الزواج .
يقول القرطبي في تفسير هذه الآية : " زوجوا من لا زوج له منكم ، فإنه طريق التعفف " .
ويقول مفسر آخر : " هذا أمرٌ للجماعة بتزويجهم " ، وبالطبع الأمر أمر ندب كما قلت قبل قليل ، فهو أمر ندب وأمر وجوب ، أمر ندب في حق طالبي الزواج ، لكنه أمر وجوب في حق أولي الأمر ، أي أن أي إنسان رغب في الزواج يجب على أولي الأمر أن ييسروا له الزواج .
لما خطب سيدنا علي فاطمة رضي الله عنها قال رسول الله صلى اله عليه وسلم
عَنِ بُرَيْدَةَ قَالَ : لَمَّا خَطَبَ عَلِيٌّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( إِنَّهُ لَا بُدَّ لِلْعُرْسِ مِنْ وَلِيمَةٍ ، قَالَ : فَقَالَ سَعْدٌ : عَلَيَّ كَبْشٌ ، وَقَالَ فُلَانٌ : عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا مِنْ ذُرَةٍ )) .
[أحمد]
معنى ذلك أنه كان بينهم تعاون إلى أن أصبحت الوليمة جاهزة .
ثمة قصة بليغة جداً حول هذا الموضوع ، فقد روى الإمام أحمد عن ربيعة الأسلمي قال :
كُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَبِيعَةُ أَلا تَزَوَّجُ ؟ قَالَ : قُلْتُ : وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ مَا عِنْدِي مَا يُقِيمُ الْمَرْأَةَ ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ يَشْغَلَنِي عَنْكَ شَيْءٌ ، فَأَعْرَضَ عَنِّي ، فَخَدَمْتُهُ مَا خَدَمْتُهُ ، ثُمَّ قَالَ لِيَ الثَّانِيَةَ : يَا رَبِيعَةُ أَلا تَزَوَّجُ ؟ فَقُلْتُ : مَا أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ ، مَا عِنْدِي مَا يُقِيمُ الْمَرْأَةَ ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ يَشْغَلَنِي عَنْكَ شَيْءٌ ، فَأَعْرَضَ عَنِّي ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى نَفْسِي فَقُلْتُ : وَاللَّهِ لَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يُصْلِحُنِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَعْلَمُ مِنِّي ، وَاللَّهِ لَئِنْ قَالَ : تَزَوَّجْ لأَقُولَنَّ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مُرْنِي بِمَا شِئْتَ ، قَالَ : فَقَالَ : يَا رَبِيعَةُ أَلا تَزَوَّجُ ؟ فَقُلْتُ : بَلَى ، مُرْنِي بِمَا شِئْتَ ، قَالَ : انْطَلِقْ إِلَى آلِ فُلانٍ حَيٍّ مِنَ الأَنْصَارِ ، وَكَانَ فِيهِمْ تَرَاخٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْ لَهُمْ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُزَوِّجُونِي فُلانَةَ لامْرَأَةٍ مِنْهُمْ ، فَذَهَبْتُ فَقُلْتُ لَهُمْ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُزَوِّجُونِي فُلانَةَ ، فَقَالُوا : مَرْحَبًا بِرَسُولِ اللَّهِ وَبِرَسُولِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَاللَّهِ لا يَرْجِعُ رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلّا بِحَاجَتِهِ ، فَزَوَّجُونِي ، وَأَلْطَفُونِي ، وَمَا سَأَلُونِي الْبَيِّنَةَ ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَزِينًا فَقَالَ لِي : مَا لَكَ يَا رَبِيعَةُ ؟ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَيْتُ قَوْمًا كِرَامًا فَزَوَّجُونِي ، وَأَكْرَمُونِي ، وَأَلْطَفُونِي ، وَمَا سَأَلُونِي بَيِّنَةً ، وَلَيْسَ عِنْدِي صَدَاقٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا بُرَيْدَةُ الأَسْلَمِيُّ ، اجْمَعُوا لَهُ وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ ، قَالَ : فَجَمَعُوا لِي وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَأَخَذْتُ مَا جَمَعُوا لِي ، فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : اذْهَبْ بِهَذَا إِلَيْهِمْ فَقُلْ : هَذَا صَدَاقُهَا ، فَأَتَيْتُهُمْ فَقُلْتُ : هَذَا صَدَاقُهَا ، فَرَضُوهُ ، وَقَبِلُوهُ ، وَقَالُوا : كَثِيرٌ طَيِّبٌ ، قَالَ : ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَزِينًا فَقَالَ : يَا رَبِيعَةُ مَا لَكَ حَزِينٌ ؟ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَأَيْتُ قَوْمًا أَكْرَمَ مِنْهُمْ رَضُوا بِمَا آتَيْتُهُمْ ، وَأَحْسَنُوا ، وَقَالُوا : كَثِيرًا طَيِّبًا ... )) .
( من سنن أحمد )
جمعوا له ، وهذا الذي أتمناه على كل إخوتنا ، في مثلِ شابٍ أقدم على الزواج ضمن الإمكانات ، يجب أن تقدم له شيئًا ضمن إمكاناتك ، عشرة قدموا سجادة ، خمسة عشر قدموا برادًا جيدًا ، كل إنسان يقدم شيئًا ، أنا أكاد أن أقول : هدية الزواج واجبة ، واجبة لا مندوحة منها من أجل التعاون .
ماذا ألبسك ؟ الذهب ، من الآن الذي يلبِّس الذهب !!! ، هكذا الناس الآن ، إلى أن جمع ثمن الذهب تكون روحه قد خرجت ، وفرح كثيراً ، وقدم الإسوارتين ، فتقول لها عمتها : من الذي الآن يلبس ذهب ، الآن يعتبر الذهب غير كافٍ ـ ماذا قالوا ؟ قالوا : كثيرٌ طيب .
والله أيها الإخوة الموقف الكامل لا يقدَّر بثمن ، شاب فقير خطب ، وأخلاقه عالية ، ومؤمن ، قدم شيئًا ، فالمؤمن الكامل يثني على هذا الشيء على طول ، والله شيء جميل ، الله يجزيك الخير ، رائع ، جميل ، لطيف ، هكذا المؤمن ، قالوا : كثيرٌ طيب .
(( ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَزِينًا فَقَالَ : يَا رَبِيعَةُ مَا لَكَ حَزِينٌ ؟ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا رَأَيْتُ قَوْمًا أَكْرَمَ مِنْهُمْ رَضُوا بِمَا آتَيْتُهُمْ ، وَأَحْسَنُوا ، وَقَالُوا : كَثِيرًا طَيِّبًا ، وَلَيْسَ عِنْدِي مَا أُولِمُ ، قَالَ : يَا بُرَيْدَةُ اجْمَعُوا لَهُ شَاةً . قَالَ : فَجَمَعُوا لِي كَبْشًا عَظِيمًا سَمِينًا ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اذْهَبْ إِلَى عَائِشَةَ فَقُلْ لَهَا فَلْتَبْعَثْ بِالْمِكْتَلِ الَّذِي فِيهِ الطَّعَامُ ـ من بيته ـ قَالَ : فَأَتَيْتُهَا فَقُلْتُ لَهَا مَا أَمَرَنِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتْ : هَذَا الْمِكْتَلُ فِيهِ تِسْعُ آصُعِ شَعِيرٍ لا وَاللَّهِ إِنْ أَصْبَحَ لَنَا طَعَامٌ غَيْرُهُ ـ قدمت له الشعير ـ خُذْهُ ، فَأَخَذْتُهُ ، فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَخْبَرْتُهُ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ فَقَالَ : اذْهَبْ بِهَذَا إِلَيْهِمْ فَقُلْ : لِيُصْبِحْ هَذَا عِنْدَكُمْ خُبْزًا ، فَذَهَبْتُ إِلَيْهِمْ ، وَذَهَبْتُ بِالْكَبْشِ ، وَمَعِي أُنَاسٌ مِنْ أَسْلَمَ ، فَقَالَ : لِيُصْبِحْ هَذَا عِنْدَكُمْ خُبْزًا ، وَهَذَا طَبِيخًا ، فَقَالُوا : أَمَّا الْخُبْزُ فَسَنَكْفِيكُمُوهُ ، وَأَمَّا الْكَبْشُ فَاكْفُونَا أَنْتُمْ ، فَأَخَذْنَا الْكَبْشَ أَنَا وَأُنَاسٌ مِنْ أَسْلَمَ ، فَذَبَحْنَاهُ ، وَسَلَخْنَاهُ ، وَطَبَخْنَاهُ ، فَأَصْبَحَ عِنْدَنَا خُبْزٌ وَلَحْمٌ ، فَأَوْلَمْتُ ، وَدَعَوْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَانِي أَرْضًا ... )) .
هكذا فعل النبي e ، فلا شيء عنده ، أمره : اخطبْ من بيت فلان ، واجمعوا له المهر ، واجمعوا له ثمن الوليمة .
إخواننا الكرام ... الذين يبحثون عن السعادة والله لو عرفوا أن هذه السعادة في إكرام الناس لسعدوا أضعافًا مضاعفة مما لو استهلكوا هذا المال في شهواتهم ومتعهم ، فالذي يعطي يشعر بسعادة كبيرة جداً .
بقيت فقرة أخيرة في الدرس : مسؤولية أولي الأمر عن تزويج الشباب .. جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال :
(( إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ نَظَرْتَ إِلَيْهَا ؟ فَإِنَّ فِي عُيُونِ الأَنْصَارِ شَيْئًا ؟ قَالَ : قَدْ نَظَرْتُ إِلَيْهَا ، قَالَ : عَلَى كَمْ تَزَوَّجْتَهَا ؟ قَالَ : عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ كَأَنَّمَا تَنْحِتُونَ الْفِضَّةَ مِنْ عُرْضِ هَذَا الْجَبَلِ ـ النبي ما رضي أن يكون هذا المهر غالياً ، أربع أواق من الفضة ـ مَا عِنْدَنَا مَا نُعْطِيكَ ، وَلَكِنْ عَسَى أَنْ نَبْعَثَكَ فِي بَعْثٍ تُصِيبُ مِنْهُ ، قَالَ : فَبَعَثَ بَعْثًا إِلَى بَنِي عَبْسٍ بَعَثَ ذَلِكَ الرَّجُلَ فِيهِمْ )) .
(مسلم )
لذلك أعظم النساء بركةً أقلهن مهرا.
عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُنَّ مَئُونَةً )) .
( من سنن أحمد )
طلباتها قليلة .
(( كَأَنَّمَا تَنْحِتُونَ الْفِضَّةَ مِنْ عُرْضِ هَذَا الْجَبَلِ ، مَا عِنْدَنَا مَا نُعْطِيكَ ؟ وَلَكِنْ عَسَى أَنْ نَبْعَثَكَ فِي بَعْثٍ تُصِيبُ مِنْهُ ، قَالَ : فَبَعَثَ بَعْثًا إِلَى بَنِي عَبْسٍ بَعَثَ ذَلِكَ الرَّجُلَ فِيهِمْ )) .
النبي عليه الصلاة والسلام في هذه القصة لا يمثل النبوة ، بل يمثل أولي الأمر ، فقد هيَّأ له عمل كي يكون قواماً له على الزواج .
إذاً واجب أولي الأمر : تيسير الأعمال ، ماذا قال عمر رضي الله عنه ؟ قال : << إن هذه الأيدي خُلِقتْ لتعمل ، فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً ، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية >> .
توفير فرص العمل من أعظم الأعمال ، لماذا كان الربا حرامًا ؟ أنت معك مثلاً خمسة ملايين لو وضعتها في مصرف ، وأخذت الفائدة تكفيك مصروف سنة ، أما لو أسست بها مشروعاً ، فأنت بحاجة إلى محاسب ، بحاجة إلى دفتر فواتير ، شغلت المطبعة ، أنا لا أبالغ أنّ أيّ مشروع مهما كان صغيرًا يشغّل خمسمئة جهة ، بحاجة إلى نقل البضاعة ، إلى مستودع ، إلى أمين مستودع ، بحاجة إلى ورق المراسلات ، إلى طبع ، بحاجة إلى أجهزة اتصال مثلاً .
مرة قرأت عن معمل من معامل السيارات يشغِّل مئتي ألف معمل ، لذلك طرحُ المال في الأعمال التجارية والصناعية والزراعية يؤمِّن فرص عمل .
الأخبار بالصحف ، يقول لك : هذا المعمل يؤمن خمسمئة فرصة عمل ، معنى ذلك أن أكبر مهمة من مهمات أولي الأمر توفير فرص العمل للشباب ، فإذا صار للشاب له عمل ، وأصبح له دخل يقول لك : أريد أن أخطب ، أول عمل بعد العمل يريد أن يخطب ، ومعه حق ، لكن بلا عمل هذا مشكلة ، فمسؤولية أولي الأمر في توفير الأعمال .
هناك قصة مهمة جداً ، سيدنا عمر رضي الله عنه أعطى ابنه من بيت مال المسلمين ، وليس كعمر إنسان بورعه ، ومع ذلك رأى أن واجب أولي الأمر أن يعينوا على تزويج الشباب ، فقد روى أبو عبيد القاسم عن عاصم بن عمر رضي الله عنه ، قال : << لما زوجني عمر ـ أي أبوه ـ أنفق علي من مال الله شهراً ، ثم قال : يا يرفأ احبس عنه ، ثم دعاني ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد فإني لم أكن أرى أن هذا المال يحل لي إلا بحقه ، ولم أحرمه عليك حين وليت هذا الأمر ، وقد أنفقت عليك من مال الله شهراً ، ولن أزيدك عليه >> .
فسيدنا عمر رأى أن من واجبه أن يزوج ابنه من بيت مال المسلمين ، وقد أنفقت عليك من مال الله شهراً ، ولن أزيدك عليه ، أي أنه أعانه ، إذاً هذا الشيء يجب أن يكون لكل شباب المسلمين ، إذاً من واجب أولي الأمر الدعم المادي المباشر ، إما توفير الأعمال أو الدعم المادي المباشر .
هناك قصة أخرى ، سيدنا عمر بن عبد العزيز كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن وهو بالعراق : << أن أخرج للناس أعطياتهم ، فكتب عبد الحميد : " إني قد أخرجت للناس أعطياتهم ، وقد بقي في بيت المال مال ـ أي أنه أعطى رواتب لكل الموظفين ـ فكتب إليه : " انظرْ كلَّ من أدان من غير سفهٍ ، ولا سرفٍ فاقضِ عنه ـ كل إنسان غارم استدان مبلغًا من المال من غير سرفٍ ، ولا سفهٍ فاقضِ عنه ـ فكتب إليه : " أني قد قضيت عنهم وبقي في بيت المال مالٌ ، فكتب إليه : انظرْ كل بكرٍ ليس له مالٌ فشا ـ أي نما ـ فزوِّجه ، فزوجت الشباب والفتيات >> .
هذا توجيه من سيدنا عمر .
أولاً : أعطي الأعطيات ، ودفع الرواتب ، قال له : بقي مال قاله له : اقضِ عن الغارمين من غير سفهٍ ولا سرفٍ ، قال له : قضيت عنهم ، وبقي مال قال له : زوج الشباب منهم بمال بيت المال .
أيها الإخوة ، إلى هنا ينتهي الموضوع اليوم ، وهو إزالة العقبات الكبيرة ، ومن أكبر العقبات الفقر ، ندعم الفقير معنوياً نبيِّن له الآيات والأحاديث ، ثم ندعمه مالياً عن طريق والده ، وعن طريق مجموع المؤمنين ، وعن طريق أولي الأمر .
وفي الدرس القادم نتحدث إن شاء الله عن الفقر المفتعل ، الفقر المصطنع ، فهذا هو الفقر الحقيقي .
والحمد لله رب العالمين
الحمد لله رب العلمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة والمؤمنون ، مع الدرس الثاني من دروس موضوع الزواج الذي أردت أن يكون غِطاءً للمشكلات التي يعاني منها المجتمع المسلم ، وقد وعدتكم في الدرس الماضي أن أتحدث عن العوائق التي تقف أمام الشباب إذا أرادوا الزواج .
الحقيقة أن من أكبر هذه العوائق موضوع الفقر ، فالإسلام بادئ ذي بدء لم يكتف بالترغيب في الزواج ، بل أمر بتعجيله ، فقد روى الإمام الترمذي عن عليٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له :
(( يَا عَلِيُّ ، ثَلاثٌ لا تُؤَخِّرْهَا : الصَّلاةُ إِذَا آنَتْ ، وَالْجَنَازَةُ إِذَا حَضَرَتْ ، وَالأَيِّمُ إِذَا وَجَدْتَ لَهَا كُفْئًا )) .
[الترمذي]
إذا آنت أي آن أوانها ، أي دخل وقتها .
ينبغي أن نكون جميعاً من أنصار الزواج المبكر لشبابنا وشابَّاتنا على حدٍ سواء ، بل إن تأخير الزواج له مخاطر كبيرةٌ جداً ، ليس أقلّها الانحراف :
(( يَا عَلِيُّ ، ثَلاثٌ لا تُؤَخِّرْهَا : الصَّلاةُ إِذَا آنَتْ ، وَالْجَنَازَةُ إِذَا حَضَرَتْ ، وَالأَيِّمُ إِذَا وَجَدْتَ لَهَا كُفْئًا )) .
[الترمذي]
أيها الإخوة الكرام ، من بعض مضار تأخير الزواج الوقوع في الحرام ، الزواج حصن للفتى وللفتاة .
الآن العائق الأول الذي يقف أمام الشباب هو الفقر ، فكيف نعالج هذا العائق ؟
أولاً : ينبغي أن يُعالج بما يسمَّى الدعم المعنوي للفقير، والدعم المعنوي يحتاج إلى دعم مادي أيضاً ، فماذا نعني بالدعم المعنوي ؟
الحقيقة أن الإنسان إذا افتقر إلى المال ربما فقدَ ثقته بنفسه ، وربما جنح إلى الظن أنه عاجزٌ عن أن يُقدِم على هذا المشروع الكبير ، وربما توهَّم أن الإحجام عن الزواج خيرٌ له من هذه الورطة الكبيرة ، هذه كلها مشاعر نفسية تنتاب من افتقر إلى المال ، فتضعف ثقته بنفسه ، ويتوهم أن الإحجام عن الزواج خيرٌ له ، يشعر أنه يعجز عن الإقدام على هذا المشروع الكبير ، بل إن الذي تضيق ذات يده يفقد كثيراً من خصائصه النفسية ، فالإنسان له خصائص ، وله قدرات ، فإذا ضاقت يده عن أن تملك ما يقيم أوْده فَقَد كثيراً من خصائصه الأساسية التي أكرمه الله بها ، والناس لضعف إيمانهم ولضعف تفكيرهم لا ينظرون إلى الفقير إلا على أنه فقير ، وينسون أن هذا الذي أمامكم إنسان يتمتع بالفكر والعقل ، والإدراك والنفس والمشاعر ، والمبادئ والقيم ، لذلك الناس التائهون الشاردون عن منهج الله عزّ وجل يحجمون عن تزويج الفقير لتوهمهم أنه لا يستطيع أن يُسعد ابنتهم ، وقد تكون الحقيقة عكس ذلك .
نحن نعود إلى كتاب الله :
( سورة النساء : آية " 65 " )
( سورة الأحزاب : آية " 36 " )
ماذا قال الله عزّ وجل في القرآن الكريم ؟ قال :
( سورة النور )
وأمام هذه الآية وقفةٌ طويلة ، ] أَنْكِحُوا [ فعلُ أمرٍ ، و] الأَيَامَى [ جمعُ أيّمٍ ، والأيِّم أيّ شخصٍ ذكراً كان أو أُنثى لا زوجة له ، ] أَنْكِحُوا الأَيَامَى [ ، والأمر موجه إلى مجموع الأُمة ، وإذا وجِّه الأمر إلى مجموع الأمة فهو موجهٌ بالتبعية إلى أُولي الأمر ، لأنهم ينوبون عن مجموع الأمة في إدارة أمورهم .
ماذا يقول العلماء الكبار في هذه الآية ؟ يقول ابن العربي في تفسيره : " في هذه الآية دليلٌ على تزويج الفقير ، والفقير ليس له الحق أن يقول : كيف أتزوج وليس لي مال ؟ فإن رزقه ورزق عياله على الله عزّ وجل " ، وفي القرآن الكريم :
نبدأ الآن بالدعم المعنوي : يجب على من لا يملك مقومات الزواج أن يشعر أن هذا العمل يغنيه ، فإنْ يكونوا فقراء قبل الزواج يغنِهم الله من فضله ، والنبي عليه الصلاة والسلام زوَّج صحابيةً من بعض أصحابه ، وليس له إلا إزارٌ واحد ، وقد زوَّج النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه على سورةٍ يحفظها من كتاب الله .
القاضي أبو مسعود يقول : " اطلبوا الغنى في هذه الآية " ، أيْ إذا أردت أن تكون غنياً فتزوج ، لأنه ما شكا أحدٌ إلى النبي e ضيقَ ذاته إلا قال له : " اذهب فتزوج " .
القصد أن الإنسان الذي لا يملك ما يكفي للزواج أن يشعر أن الله سبحانه وتعالى سوف يغنيه إذا أقدم على هذا الزواج ، لكنك إذا أردت أن تكون واقعياً ، هذا الغنى الذي يكون بعد الزواج ربما شاءه الله ، وربما لم يشأه سبحانه ، لكي تكون واقعيًّا ، إنْ شاءه فلحكمةٍ بالغة ، وإن لم يشأه فلحكمةٍ بالغة ، لذلك قال تعالى :
الأصل أن الذي يقدم على الزواج يغنيه الله سبحانه وتعالى إن شاء .
أحياناً الأب يكون غنياً ، وهذا ابنه ، والأصل أن يعطيه ما يريد ، لكن إذا ثبت للأب أن هذا العطاء ربما أضرَّ مستقبله ، ربما استخدمه فيما لا يرضي ، قد يمنع الأب ابنه من عطاءٍ لحكمةٍ يراها ، لذلك الغنى هنا الذي وعد الله به من يقدم على الزواج مرتبطٌ بمشيئة الله عزَّ وجل ، ماذا يقول الصديق رضي الله عنه في هذه الآية ؟ يقول : << أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى >> .
ماذا يقول سيدنا عمر عن هذه الآية ؟
( سورة النور : آية " 32 " )
يقول عمر رضي الله عنه : << ما رأيت مثل من يجلس أيماً بعد هذه الآية : ] أَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ [ >> .
ما رأيت : أي أنا أعجب أشدَّ العجب مما يبقى أيماً بعد هذه الآية ، هذا قول سيدنا عمر .
ويقول أيضاً : << التمسوا الغنى في الزواج >> .
الإمام البخاري في صحيحه عقد باباً تحت عنوان تزويج المعسر لقوله تعالى :
في شرح ابن حجر العسقلاني لصحيح البخاري ، يقول ابن حجر: " إن الفقر في الحال لا يمنع التزويج لاحتمال حصول المال في المآل " .
هناك مناقشة دقيقة أرجو أن تكون واضحةً لديكم ، الله عزَّ وجل يغني الأعزب أو يفقره ، ويغني المتزوج أو يفقره ، مادام الغنى الذي وعد الله به منوطاً بمشيئة الله معنى ذلك أن يمكن للإنسان أن يتزوج ولا يغتني ، أو يكون أعزب وهو فقير ، وقد يكون أعزب وهو غني ، ومادام هذا منوطاً بمشيئة الله عزَّ وجل فلماذا ربط الله الغنى بالزواج ؟ حسب المعنى الدقيق للآية يمكن أن يغني الله الأعزب أو يغني المتزوج ، أو يفقرهما معاً ، فلماذا ربط الله عزَّ وجل الغنى بالزواج ؟
يجيب العلماء بأن الإنسان في الأعم الأغلب يتوهم أن الزواج إنفاق المال وإنجاب الأولاد ، وتأمين الطعام والشراب والكساء ، ففي توهم بعض الناس أن الزواج يعني المزيد من المال ، وأن العزوبة ربما كانت أخفُّ إنفاقاً من الزواج ، لأنه نظر إلى الأسباب ، ولم ينظر إلى المسبِّب ، فلذلك طمأننا ربنا جلَّ جلاله وقال : لا تربطوا بين الزواج والفقر ولا بين الغنى وترك الزواج ، فالله سبحانه وتعالى هو المغني ، وهو المعطي ، وهو الذي يرفع الإنسان من حالٍ إلى حال .
يقول عليه الصلاة والسلام :
(( ثلاثةٌ حقٌ على الله ... )) .
بالمناسبة إذا وردت كلمة على مع لفظ الجلالة فهي تفيد الإلزام ، لكن الله من يلزمه ؟ قال العلماء : إذا قال الله عزَّ وجل :
( سورة هود)
( سورة هود : آية " 6 " )
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( ثَلاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمُ : الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الأَدَاءَ ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ )) .
أي أن الله جلَّ جلاله ألزم نفسه إلزاماً ذاتياً أن يعين كلَّ طالب عفاف من دون استثناء ، أفلا يكفي هذا الحديث : (( ثَلاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمُ : الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الأَدَاءَ ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ )) .
[الترمذي]
هذا الذي أريده من كلمة دعم الفقير الدعم المعنوي ، أي أن الفقير ينبغي أن يقدم ينبغي ألا يحجم ، لأنه من ترك التزويج مخافة العيلة فليس منا ، بل يجب أن يأخذ بالأسباب ، وأن يتوكل على رب الأرباب ، لا ينبغي أن يتردد ، أما بالحساب فربما عزف الإنسان عن الزواج كلياً ، أما بالتوكل على الله اعتماداً على هذه الآية العظيمة :
( سورة النور )
فإنه يقدم على الزواج .
: (( ثَلاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمُ : الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الأَدَاءَ ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ )) ، و : << ما شكا إلى النبي e أحدٌ ضيق ذات يده إلا قال له : اذهب فتزوج >> .
لقد وردت أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد قال سيدنا سعد بن أبي وقاص : << ثلاثةٌ أنا فيهن رجل ، وفيما سوى ذلك فأنا واحدٌ من الناس ، ما سمعت حديثاً من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلا علمت أنه حقٌ من الله تعالى ...>> .
هذه الفقرة الأولى من الدرس .
الفقرة الثانية ، الفقر ليس ينقص من قدر الإنسان ، دققوا لماذا جعل الله بعض الأنبياء فقراء ؟ لماذا جعل الله بعض الأنبياء أولادهم ليسوا على مذهبهم ؟ سيدنا نوح ، ولماذا جعل الله بعض الصديقات آسية امرأة فرعون صديقة وزوجها فرعون نبيٌ كان ملكاً ، ونبيٌ كان راعي غنم ، ونبيٌ كانت له زوجةٌ سيئةٌ :
( سورة التحريم )
إنّ الفقر لا يزري بصاحبه ، بل إن النبي كان عليه الصلاة والسلام كان فقيراً ، وقد كان يدخل إلى البيت فلا يجد أكلا ، فعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ :
(( يَا عَائِشَةُ ، هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ ؟ قَالَتْ : فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ ، قَالَ : فَإِنِّي صَائِمٌ )) .
عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ ، وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ ، وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ )) .
[الترمذي]
مر رجل على رسول الله وكان عليه الصلاة والسلام مع أصحابه ، ويبدو أن هذا الرجل غني ، فعَنْ سَهْلٍ قَالَ : مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ :
(( مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا ؟ قَالُوا : حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ ـ أن يزوَّج ـ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْتَمَعَ ، قَالَ : ثُمَّ سَكَتَ ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ : مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا ؟ ـ يبدوا أنه فقير ـ قَالُوا : حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لا يُنْكَحَ ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لا يُشَفَّعَ ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لا يُسْتَمَعَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَذَا ـ يعني الفقير ـ خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا )) .
[البخاري]
الفقر لا يقدم ولا يؤخر ، ولا يرفع ولا يخفض ، ولا يعز ولا يذل ، هذا عند التائهين ، عند الشاردين عند الماديين ، عند أهل الدنيا ، لكن الفقر في عالم الإيمان شيءٌ عرَضي ، قدَّره الله عزَّ وجل لحكمةٍ بالغة ، إما امتحاناً ، وإما تأديباً ، وإما حفظاً .
عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَحْمِي عَبْدَه الْمُؤْمِنَ مِنْ الدُّنْيَا وَهُوَ يَحْمِيهِ كَمَا تَحْمُونَ مَرِيضَكُمْ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ تَخَافُونَهُ عَلَيْهِ )) .
[أحمد]
هذا الحديث يكفي ، إن هذا ، وأشار إلى الفقير ، خيرٌ من ملء الأرض من هذا ، وهذا الحديث ورد في صحيح البخاري وهو من أصح الأحاديث .
وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ ، إِلا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ)) .
[الترمذي]
كيف ؟ كلما طرق بيت المسلم خاطبٌ فقير ردَّ لفقره ، هذه الفتاة بقيت بلا زواج ، وكلما طلب فتىً فقير للزواج رد لفقره فبقي هذا الفتى بلا زواج ، ما الذي سيحصل ؟ نحن أمام أعداد كبيرة جداً من الفتيان والفتيات فاتهم قطار الزواج ، لا لشيء إلا لأنهم فقراء ، وحينما يفوت الإنسان قطار الزواج يصبح أكثر عرضةً للفساد مما لو تزوج ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصوْمِ ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ )) .
( صحيح البخاري عن ابن مسعود)
تعريف دقيق : (( أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ .. إِلا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ )) .
من رغب في الفتاة لأنها غنية ، ما الذي يحصل ؟ روى الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ : لِمَالِهَا ، وَلِحَسَبِهَا ، وَجَمَالِهَا ، وَلِدِينِهَا ، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ `
[البخاري]
في حديث آخر أرويه لكم دائماً :
(( من تزوج المرأة لجمالها أذله الله ، ومن تزوجها لمالها أفقره الله ، ومن تزوجها لحسبها زاده الله دناءةً ، فعليك بذات الدين تربت يداك )) .
[ورد في الأثر]
ويقول ابن حجر العسقلاني في شرح هذا الحديث : " يليق بالمؤمن الدين والمروءة ، أن يكون الدين مطمحه في كل علاقاته الإنسانية ، ولا سيما إذا كانت العلاقة مديدةً ، وهل من علاقةٍ أطول من علاقة الزواج ؟ " .
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال عليه الصلاة والسلام :
(( لا تَزَوَّجُوا النِّسَاءَ لِحُسْنِهِنَّ فَعَسَى حُسْنُهُنَّ أَنْ يُرْدِيَهُنَّ ، وَلا تَزَوَّجُوهُنَّ لأَمْوَالِهِنَّ فَعَسَى أَمْوَالُهُنَّ أَنْ تُطْغِيَهُنَّ ، وَلَكِنْ تَزَوَّجُوهُنَّ عَلَى الدِّينِ ، وَلأَمَةٌ خَرْمَاءُ سَوْدَاءُ ذَاتُ دِينٍ أَفْضَلُ )) .
طبعاً لو قلنا : لحسنهن أي لحسنهن فقط ، أي أنه لم ينتبه للدين ، انتبه إلى الجمال فقط ، خرماء أي أنها مقطوعة الأنف ، مثقوبة الأذن .. ذَاتُ دِينٍ أَفْضَلُ ، كيف لا و الله عزَّ وجل يقول في القرآن الكريم :
( سورة البقرة : آية " 221 " )
الآن هذا هو الدعم المعنوي .
لكن نحن نريد الدعم المالي للفقير ، هذا الدعم موزع على ثلاث جهات : موزعٌ على عاتق الآباء ، وموزعٌ على عاتق المجتمع الإسلامي ، وموزعٌ على عاتق أولي الأمر ، أي واجب الأولياء ، وواجب المسلمين جميعاً ، وواجب أولي الأمر أن يقدموا يد العون لتزويج الشباب ، وبعضهم يقول : ينبغي أن يكون الدرس مؤصلاً ، ومعنى مؤصلاً ، أي معتمداً على أصول ، وهي الكتاب والسنة ، لأنه درس دين هذا ، فالأصل الكتاب والسنة .
الآن كيف أن تزويج الأبناء من واجب الآباء ، هذا شيء نحن نقبله ، ونرحب به ، ونثني عليه ، لكن النبي أوجب الآباء أن يزوِّج الأبناء ؟ استمعوا قال عليه الصلاة والسلام :
(( مَنْ وَلَدَ لَهُ وَلَدٌ ... )) .
نسميه مثلا عبد الله ، أو عبد الرحمن ، أو محي الدين ، هناك أسماء لطيفة جداً أسماء دينية ، أسماء جمالية ، أسماء فيها مكارم أخلاق ، صالح مثلاً ، عمر .
(( مَنْ وَلَدَ لَهُ وَلَدٌ فَلْيُحْسِنْ اِسْمَهُ وَأَدَبَهُ ، فَإِذَا بَلَغَ فَلْيُزَوِّجْهُ ، فَإِنْ بَلَغَ وَلَمْ يُزَوِّجْهُ فَأَصَابَ إِثْماً فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى أَبِيهِ )) .
[ورد في الأثر]
أن يسميه جعيفص مثلاً ، فما هذا الاسم ؟!! سمِّه عبد الله ، عبد الرحمن ، محي الدين ، فهناك أسماء لطيفة جداً ، أسماء دينية ، وأسماء جمالية ، أسماء فيها مكارم أخلاق كصالح مثلاً ، أو عمر .
هذا كلام النبي الذي لا ينطق عن الهوى .
أيها الآباء دققوا ، وقبل أن ترفض أن تقدم لابنك المساعدة فكِّر في هذا الحديث ، أنا عصامي يا بني ، وأنت كن عصاميًّا مثلي ، اذهب واشتغل ، لا يجوز هذا ، فالآن الأمور معقدة جداً ، الأمور معقدة إلى درجة لا يمكن أن يتم زواجٌ من دون مساعدة من الأهل .
والله هناك أب أنا كلما ألتقي به والله في قلبي احترام له لا حدود له ، سكن في بيت في أحد أحياء دمشق الراقية ، اشتراه قبل أربعين أو خمسين سنة ، والبيت أصبح ثمنه غاليًّا جداً ، وهو موظف ودخله محدود ، وعنده أولاد شباب ، فباع البيت ، واشترى لأولاده جميعهاً بيوتاً ، وسكن معهم خارج دمشق ، هذه بطولة كبيرة جداً ، أن يؤمِّن الإنسان أولاده كلهم ، طبعاً هيأ لأولاده بيوتاً على حسابه ، خرج من هذا البيت الفخم ، ومن هذه المساحة الكبيرة ، ومن هذا الحي الراقي ، وسكن خارج دمشق ، واشترى لكل ولدٍ بيتاً .
وفي روايةً أخرى للإمام البيهقي عن عمر بن الخطاب وأنس بن مالك :
(( مَنْ بَلَغْتْ ابْنَتُه اثنتي عشرة سنة ولم يزوجها فأصابت إثماً فإثم ذلك عليه )) .
قلت لكم مرةً ، وَوالله لا أتمنى أن أعيد هذه الكلمة لأنها خشنة ، لكنها وقعت : أبٌ على فراش الموت تقول له ابنته : والله لا أسامحك ، والله لا أسامحك ، والله لا أسامحك ، وربما قالت : حرمك الله الجنة كما حرمتني الزواج ، كلما جاء خاطبٌ رده لسببٍ تافه فبقيت بلا زوج .
وذكرت لكم سابقاً أن أقوى دافعٍ في الجنس البشري دافع الأمومة ، لذلك الأب يجب أن يفكِّر ملياً ، وأن يسعى حثيثاً ، وأن يأخذ بالأسباب في تزويج بناته ، أما أن يكون هو مرتاحاً ليس عنده هذا الضغط الذي أودعه الله في الأنثى وفي الرجل على حدٍ سواء ، فبدأ يحاسب هذا الخاطب ، أين سوف تسكن لي ابنتي ؟ يقول له : والله أنا عندي بيت خارج الشام ، فيجيبه : لا .. لا .. نحن نريد في الشام ، فإذا أمّن بيتاً في الشام ، قال : كم مساحته ؟ لا ، هذا صغير مثل اللعبة ، كلما قدم شيئًا رفضه ، والبنت على أحرَّ من الجمر ، والأب قاسٍ وجبار ، إلى أن فاتها قطار الزواج .
في المذهب الشافعي يجب على الرجل إعفاف ابنته إذا احتاجت إلى النكاح ، كيف يجب عليه إعفاف ابنته ؟ أي إذا كنت ميسور الحال جداً ، وأمَّنت لها بيتًا ، وأنت في كامل قواك العقلية والشرعية ، يأتيك أحسن الخطّاب لهذه الفتاة ، هذا حل كبير ، أنت حينما قدمت لها البيت ، جاءك من تثق بدينه ، وانحلّت عقبة ، لكن لا تقدم لها بيتاً ، وأنت غنيٌ كبير ، لماذا ؟ لماذا قدمت لابنك ولم تقدم لابنتك بيتاً ؟
أما مسؤولية المجتمع الإسلامي عن تزويج الأيامى فلقول الله عزَّ وجل :
( سورة النور )
علماء الأصول لهم توجيهٌ لطيف في هذه الآية ، الآيات التي توجه إلى مجموع المؤمنين هي موجهةٌ حكماً إلى أولي الأمر ، لأن أولي الأمر هم الذين يديرون شؤون المسلمين ، إذاً الحاكم المسلم مكلفٌ أن يسهِّل سُبل الزواج .
كنت في أحد عقود القران ، وطُلِب مني أن أتكلم في الحلول العملية ، أي لو هيأنا بيوتًا لا للبيع ، بل للإيجار ، شاب متفوق نال شهادة عليا ، له راتب يكفيه طعاماً وشراباً ولباساً ، لكن هذا الراتب لا يكفيه شراء بيت ، فإذا أخذنا منه ثلث دخلّه كأجرة بيت حُلّت القضية ، أنا أقول : الآن القضية متمركزة في البيت ، لذلك أرجو الله عزَّ وجل أن ينهض المسلمون بتأمين البيوت الإيجار ، فالبيع صعب ، أقل بيت ثمنه ثلاثة ملايين ، كيف يجمع هذا الشاب هذه الملايين الثلاثة ؟ هذا شيء فوق طاقته ، لكن لو قلنا له : لك دخل ستة آلاف هات ألفين منها ، يقول لك : حباً وكرامة ، أتمنى أن تنشأ بيوت من غرفتين فقط ، غرفة ومنافعها بأقل كسوة ممكنة ، وأن تؤجر هذه البيوت للشباب المؤمنين الطيبين .
قلتُ سابقاً إنني سمعت عن رجل في قرية من قرى دمشق عمَّر أربع بنايات ، وطوابق عديدة ، وشققًا عديدة ، وقال : هذه لن أبيعها إطلاقاً سأؤجرها للشباب المؤمن ، آخذ على كل بيت ألفين في الشهر ، هذا عمل صالح وكبير جداً ، أنت لا تعرف مقدار السعادة .
أرو لكم هذه القصة : أعرف أخًا سكن في بيت مستأجر ، فقالت له صاحبة البيت : أتعدني أنني إذا طلبت البيت أن تخرج ؟ قال : نعم ، تركته في البيت سنوات عشرًا ، وفجأةً طالبته بالبيت ، هو يروي لي هذه القصة ، قال لي : والله استجبت لها ، وجئت في الموعد المخصص ، فرأيت محاميًّا من ألمع محامي دمشق ، كتبت التنازل ، قال لي بعد أن وقَّعت التنازل : أمجنونٌ أنت ؟ أنت صرت في الطريق ، والقصة طويلة طبعاً لا يتسع الدرس لسردها بتفاصيلها ، لكن بقدرة قادر ، وبشيء يعدُّ خرقاً للعادات يسَّر الله له بيتاً جيداً مفتوحاً على أربع جهات في طابقٍ مرتفعٍ يكشف الشام كلّها ، ولم يكن يملك من ثمن هذا البيت شيئاً ، ولأن القصة طويلة فلن أرويها كاملة ، اشترى هذا البيت ، وسكن فيه ، وآوه الله فيه ، ولكن القصة أين عبرتها ؟ أن صاحبة البيت لماذا طلبت البيت ؟ لها ابنة فاتها قطار الزواج ، ثم جاءها خاطب ، لكن ليس له بيت ، قالت البنت لأمها : يا أمي اطلبي من فلان المستأجر أن يعطينا البيت ، فلعل البيت يكون سبباً في هذا الزواج ، فلما لبى دعوتها ، وأعطاها البيت ، ذهبت هذه الفتاة إلى أداء العمرة ، وطوال الطريق وفي مكة المكرمة وعند رسول الله صلى الله عله وسلم تدعو وتقول : اللهم هيئ لفلان بيتاً خيراً من بيتي ، لأنه جبر خاطري ، فأكرمه الله ببيت .
عندما تهيئ بيتًا لإنسان فيتزوج ، وتطمئن نفسه ، ويتزوج فتاة مؤمنة تطمئن نفسها ، أنت عملتَ عملا عظيمًا .
لذلك أيها الإخوة ، المشكلة الآن متركزة في البيوت ، إن شاء الله يتعدَّل قانون الإيجار ، وقد علمت أنه سيعدل ، وثمة سبعمئة ألف شقة في الشام مغلقة تنتظر تعديل قانون الإيجار ، فإذا أصبح القانون ساريًا فالعقد ينفَّذ بشروطه ولمدته ، فجأةً تجد سبعمئة ألف بيت في الشام معروضة للإيجار ، ولا تحلُّ هذه المشكلة إلا بتوافر بيوت للإيجار لا للبيع ، فالبيع طريقه مسدود .
إذاً :
أي أن هذا طلب من أولي الأمر أن يسهِّلوا سبل الزواج لتيسير البيوت لطالبي الزواج .
يقول القرطبي في تفسير هذه الآية : " زوجوا من لا زوج له منكم ، فإنه طريق التعفف " .
ويقول مفسر آخر : " هذا أمرٌ للجماعة بتزويجهم " ، وبالطبع الأمر أمر ندب كما قلت قبل قليل ، فهو أمر ندب وأمر وجوب ، أمر ندب في حق طالبي الزواج ، لكنه أمر وجوب في حق أولي الأمر ، أي أن أي إنسان رغب في الزواج يجب على أولي الأمر أن ييسروا له الزواج .
لما خطب سيدنا علي فاطمة رضي الله عنها قال رسول الله صلى اله عليه وسلم
عَنِ بُرَيْدَةَ قَالَ : لَمَّا خَطَبَ عَلِيٌّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( إِنَّهُ لَا بُدَّ لِلْعُرْسِ مِنْ وَلِيمَةٍ ، قَالَ : فَقَالَ سَعْدٌ : عَلَيَّ كَبْشٌ ، وَقَالَ فُلَانٌ : عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا مِنْ ذُرَةٍ )) .
[أحمد]
معنى ذلك أنه كان بينهم تعاون إلى أن أصبحت الوليمة جاهزة .
ثمة قصة بليغة جداً حول هذا الموضوع ، فقد روى الإمام أحمد عن ربيعة الأسلمي قال :
كُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَبِيعَةُ أَلا تَزَوَّجُ ؟ قَالَ : قُلْتُ : وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ مَا عِنْدِي مَا يُقِيمُ الْمَرْأَةَ ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ يَشْغَلَنِي عَنْكَ شَيْءٌ ، فَأَعْرَضَ عَنِّي ، فَخَدَمْتُهُ مَا خَدَمْتُهُ ، ثُمَّ قَالَ لِيَ الثَّانِيَةَ : يَا رَبِيعَةُ أَلا تَزَوَّجُ ؟ فَقُلْتُ : مَا أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ ، مَا عِنْدِي مَا يُقِيمُ الْمَرْأَةَ ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ يَشْغَلَنِي عَنْكَ شَيْءٌ ، فَأَعْرَضَ عَنِّي ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى نَفْسِي فَقُلْتُ : وَاللَّهِ لَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يُصْلِحُنِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَعْلَمُ مِنِّي ، وَاللَّهِ لَئِنْ قَالَ : تَزَوَّجْ لأَقُولَنَّ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مُرْنِي بِمَا شِئْتَ ، قَالَ : فَقَالَ : يَا رَبِيعَةُ أَلا تَزَوَّجُ ؟ فَقُلْتُ : بَلَى ، مُرْنِي بِمَا شِئْتَ ، قَالَ : انْطَلِقْ إِلَى آلِ فُلانٍ حَيٍّ مِنَ الأَنْصَارِ ، وَكَانَ فِيهِمْ تَرَاخٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْ لَهُمْ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُزَوِّجُونِي فُلانَةَ لامْرَأَةٍ مِنْهُمْ ، فَذَهَبْتُ فَقُلْتُ لَهُمْ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُزَوِّجُونِي فُلانَةَ ، فَقَالُوا : مَرْحَبًا بِرَسُولِ اللَّهِ وَبِرَسُولِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَاللَّهِ لا يَرْجِعُ رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلّا بِحَاجَتِهِ ، فَزَوَّجُونِي ، وَأَلْطَفُونِي ، وَمَا سَأَلُونِي الْبَيِّنَةَ ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَزِينًا فَقَالَ لِي : مَا لَكَ يَا رَبِيعَةُ ؟ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَيْتُ قَوْمًا كِرَامًا فَزَوَّجُونِي ، وَأَكْرَمُونِي ، وَأَلْطَفُونِي ، وَمَا سَأَلُونِي بَيِّنَةً ، وَلَيْسَ عِنْدِي صَدَاقٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا بُرَيْدَةُ الأَسْلَمِيُّ ، اجْمَعُوا لَهُ وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ ، قَالَ : فَجَمَعُوا لِي وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَأَخَذْتُ مَا جَمَعُوا لِي ، فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : اذْهَبْ بِهَذَا إِلَيْهِمْ فَقُلْ : هَذَا صَدَاقُهَا ، فَأَتَيْتُهُمْ فَقُلْتُ : هَذَا صَدَاقُهَا ، فَرَضُوهُ ، وَقَبِلُوهُ ، وَقَالُوا : كَثِيرٌ طَيِّبٌ ، قَالَ : ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَزِينًا فَقَالَ : يَا رَبِيعَةُ مَا لَكَ حَزِينٌ ؟ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَأَيْتُ قَوْمًا أَكْرَمَ مِنْهُمْ رَضُوا بِمَا آتَيْتُهُمْ ، وَأَحْسَنُوا ، وَقَالُوا : كَثِيرًا طَيِّبًا ... )) .
( من سنن أحمد )
جمعوا له ، وهذا الذي أتمناه على كل إخوتنا ، في مثلِ شابٍ أقدم على الزواج ضمن الإمكانات ، يجب أن تقدم له شيئًا ضمن إمكاناتك ، عشرة قدموا سجادة ، خمسة عشر قدموا برادًا جيدًا ، كل إنسان يقدم شيئًا ، أنا أكاد أن أقول : هدية الزواج واجبة ، واجبة لا مندوحة منها من أجل التعاون .
ماذا ألبسك ؟ الذهب ، من الآن الذي يلبِّس الذهب !!! ، هكذا الناس الآن ، إلى أن جمع ثمن الذهب تكون روحه قد خرجت ، وفرح كثيراً ، وقدم الإسوارتين ، فتقول لها عمتها : من الذي الآن يلبس ذهب ، الآن يعتبر الذهب غير كافٍ ـ ماذا قالوا ؟ قالوا : كثيرٌ طيب .
والله أيها الإخوة الموقف الكامل لا يقدَّر بثمن ، شاب فقير خطب ، وأخلاقه عالية ، ومؤمن ، قدم شيئًا ، فالمؤمن الكامل يثني على هذا الشيء على طول ، والله شيء جميل ، الله يجزيك الخير ، رائع ، جميل ، لطيف ، هكذا المؤمن ، قالوا : كثيرٌ طيب .
(( ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَزِينًا فَقَالَ : يَا رَبِيعَةُ مَا لَكَ حَزِينٌ ؟ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا رَأَيْتُ قَوْمًا أَكْرَمَ مِنْهُمْ رَضُوا بِمَا آتَيْتُهُمْ ، وَأَحْسَنُوا ، وَقَالُوا : كَثِيرًا طَيِّبًا ، وَلَيْسَ عِنْدِي مَا أُولِمُ ، قَالَ : يَا بُرَيْدَةُ اجْمَعُوا لَهُ شَاةً . قَالَ : فَجَمَعُوا لِي كَبْشًا عَظِيمًا سَمِينًا ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اذْهَبْ إِلَى عَائِشَةَ فَقُلْ لَهَا فَلْتَبْعَثْ بِالْمِكْتَلِ الَّذِي فِيهِ الطَّعَامُ ـ من بيته ـ قَالَ : فَأَتَيْتُهَا فَقُلْتُ لَهَا مَا أَمَرَنِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتْ : هَذَا الْمِكْتَلُ فِيهِ تِسْعُ آصُعِ شَعِيرٍ لا وَاللَّهِ إِنْ أَصْبَحَ لَنَا طَعَامٌ غَيْرُهُ ـ قدمت له الشعير ـ خُذْهُ ، فَأَخَذْتُهُ ، فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَخْبَرْتُهُ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ فَقَالَ : اذْهَبْ بِهَذَا إِلَيْهِمْ فَقُلْ : لِيُصْبِحْ هَذَا عِنْدَكُمْ خُبْزًا ، فَذَهَبْتُ إِلَيْهِمْ ، وَذَهَبْتُ بِالْكَبْشِ ، وَمَعِي أُنَاسٌ مِنْ أَسْلَمَ ، فَقَالَ : لِيُصْبِحْ هَذَا عِنْدَكُمْ خُبْزًا ، وَهَذَا طَبِيخًا ، فَقَالُوا : أَمَّا الْخُبْزُ فَسَنَكْفِيكُمُوهُ ، وَأَمَّا الْكَبْشُ فَاكْفُونَا أَنْتُمْ ، فَأَخَذْنَا الْكَبْشَ أَنَا وَأُنَاسٌ مِنْ أَسْلَمَ ، فَذَبَحْنَاهُ ، وَسَلَخْنَاهُ ، وَطَبَخْنَاهُ ، فَأَصْبَحَ عِنْدَنَا خُبْزٌ وَلَحْمٌ ، فَأَوْلَمْتُ ، وَدَعَوْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَانِي أَرْضًا ... )) .
هكذا فعل النبي e ، فلا شيء عنده ، أمره : اخطبْ من بيت فلان ، واجمعوا له المهر ، واجمعوا له ثمن الوليمة .
إخواننا الكرام ... الذين يبحثون عن السعادة والله لو عرفوا أن هذه السعادة في إكرام الناس لسعدوا أضعافًا مضاعفة مما لو استهلكوا هذا المال في شهواتهم ومتعهم ، فالذي يعطي يشعر بسعادة كبيرة جداً .
بقيت فقرة أخيرة في الدرس : مسؤولية أولي الأمر عن تزويج الشباب .. جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال :
(( إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ نَظَرْتَ إِلَيْهَا ؟ فَإِنَّ فِي عُيُونِ الأَنْصَارِ شَيْئًا ؟ قَالَ : قَدْ نَظَرْتُ إِلَيْهَا ، قَالَ : عَلَى كَمْ تَزَوَّجْتَهَا ؟ قَالَ : عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ كَأَنَّمَا تَنْحِتُونَ الْفِضَّةَ مِنْ عُرْضِ هَذَا الْجَبَلِ ـ النبي ما رضي أن يكون هذا المهر غالياً ، أربع أواق من الفضة ـ مَا عِنْدَنَا مَا نُعْطِيكَ ، وَلَكِنْ عَسَى أَنْ نَبْعَثَكَ فِي بَعْثٍ تُصِيبُ مِنْهُ ، قَالَ : فَبَعَثَ بَعْثًا إِلَى بَنِي عَبْسٍ بَعَثَ ذَلِكَ الرَّجُلَ فِيهِمْ )) .
(مسلم )
لذلك أعظم النساء بركةً أقلهن مهرا.
عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُنَّ مَئُونَةً )) .
( من سنن أحمد )
طلباتها قليلة .
(( كَأَنَّمَا تَنْحِتُونَ الْفِضَّةَ مِنْ عُرْضِ هَذَا الْجَبَلِ ، مَا عِنْدَنَا مَا نُعْطِيكَ ؟ وَلَكِنْ عَسَى أَنْ نَبْعَثَكَ فِي بَعْثٍ تُصِيبُ مِنْهُ ، قَالَ : فَبَعَثَ بَعْثًا إِلَى بَنِي عَبْسٍ بَعَثَ ذَلِكَ الرَّجُلَ فِيهِمْ )) .
النبي عليه الصلاة والسلام في هذه القصة لا يمثل النبوة ، بل يمثل أولي الأمر ، فقد هيَّأ له عمل كي يكون قواماً له على الزواج .
إذاً واجب أولي الأمر : تيسير الأعمال ، ماذا قال عمر رضي الله عنه ؟ قال : << إن هذه الأيدي خُلِقتْ لتعمل ، فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً ، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية >> .
توفير فرص العمل من أعظم الأعمال ، لماذا كان الربا حرامًا ؟ أنت معك مثلاً خمسة ملايين لو وضعتها في مصرف ، وأخذت الفائدة تكفيك مصروف سنة ، أما لو أسست بها مشروعاً ، فأنت بحاجة إلى محاسب ، بحاجة إلى دفتر فواتير ، شغلت المطبعة ، أنا لا أبالغ أنّ أيّ مشروع مهما كان صغيرًا يشغّل خمسمئة جهة ، بحاجة إلى نقل البضاعة ، إلى مستودع ، إلى أمين مستودع ، بحاجة إلى ورق المراسلات ، إلى طبع ، بحاجة إلى أجهزة اتصال مثلاً .
مرة قرأت عن معمل من معامل السيارات يشغِّل مئتي ألف معمل ، لذلك طرحُ المال في الأعمال التجارية والصناعية والزراعية يؤمِّن فرص عمل .
الأخبار بالصحف ، يقول لك : هذا المعمل يؤمن خمسمئة فرصة عمل ، معنى ذلك أن أكبر مهمة من مهمات أولي الأمر توفير فرص العمل للشباب ، فإذا صار للشاب له عمل ، وأصبح له دخل يقول لك : أريد أن أخطب ، أول عمل بعد العمل يريد أن يخطب ، ومعه حق ، لكن بلا عمل هذا مشكلة ، فمسؤولية أولي الأمر في توفير الأعمال .
هناك قصة مهمة جداً ، سيدنا عمر رضي الله عنه أعطى ابنه من بيت مال المسلمين ، وليس كعمر إنسان بورعه ، ومع ذلك رأى أن واجب أولي الأمر أن يعينوا على تزويج الشباب ، فقد روى أبو عبيد القاسم عن عاصم بن عمر رضي الله عنه ، قال : << لما زوجني عمر ـ أي أبوه ـ أنفق علي من مال الله شهراً ، ثم قال : يا يرفأ احبس عنه ، ثم دعاني ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد فإني لم أكن أرى أن هذا المال يحل لي إلا بحقه ، ولم أحرمه عليك حين وليت هذا الأمر ، وقد أنفقت عليك من مال الله شهراً ، ولن أزيدك عليه >> .
فسيدنا عمر رأى أن من واجبه أن يزوج ابنه من بيت مال المسلمين ، وقد أنفقت عليك من مال الله شهراً ، ولن أزيدك عليه ، أي أنه أعانه ، إذاً هذا الشيء يجب أن يكون لكل شباب المسلمين ، إذاً من واجب أولي الأمر الدعم المادي المباشر ، إما توفير الأعمال أو الدعم المادي المباشر .
هناك قصة أخرى ، سيدنا عمر بن عبد العزيز كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن وهو بالعراق : << أن أخرج للناس أعطياتهم ، فكتب عبد الحميد : " إني قد أخرجت للناس أعطياتهم ، وقد بقي في بيت المال مال ـ أي أنه أعطى رواتب لكل الموظفين ـ فكتب إليه : " انظرْ كلَّ من أدان من غير سفهٍ ، ولا سرفٍ فاقضِ عنه ـ كل إنسان غارم استدان مبلغًا من المال من غير سرفٍ ، ولا سفهٍ فاقضِ عنه ـ فكتب إليه : " أني قد قضيت عنهم وبقي في بيت المال مالٌ ، فكتب إليه : انظرْ كل بكرٍ ليس له مالٌ فشا ـ أي نما ـ فزوِّجه ، فزوجت الشباب والفتيات >> .
هذا توجيه من سيدنا عمر .
أولاً : أعطي الأعطيات ، ودفع الرواتب ، قال له : بقي مال قاله له : اقضِ عن الغارمين من غير سفهٍ ولا سرفٍ ، قال له : قضيت عنهم ، وبقي مال قال له : زوج الشباب منهم بمال بيت المال .
أيها الإخوة ، إلى هنا ينتهي الموضوع اليوم ، وهو إزالة العقبات الكبيرة ، ومن أكبر العقبات الفقر ، ندعم الفقير معنوياً نبيِّن له الآيات والأحاديث ، ثم ندعمه مالياً عن طريق والده ، وعن طريق مجموع المؤمنين ، وعن طريق أولي الأمر .
وفي الدرس القادم نتحدث إن شاء الله عن الفقر المفتعل ، الفقر المصطنع ، فهذا هو الفقر الحقيقي .
والحمد لله رب العالمين
أمير المحبين- نور عيني
- عدد المساهمات : 7
نقاط : 21
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 30/06/2010
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى